الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الاصول

32/02/14

بسم الله الرحمن الرحیم

الوجه الثاني: للتقديم هو أقوائية الظهور الأول (المقتضي لعدم التداخل) على الثاني (المقتضي للتداخل)، وهو كلام في غاية المتانة وقد أفاده المحقق الخراساني أيضاً، ولكن في هامش الكفاية[1] .

توضيحه: تارة يدّعى - كما ادعاه المشهور - أن الظهور الأول ظهورٌ للقضية الشرطية في كونه علةً تامة مستقلة للجزاء (= الحكم)، كي يقتضي عدمَ التداخل وهو ظهور إطلاقي ثابت بمقدمات الحكمة وليس وضعياً؛ لِما تقدم من أن العلية التامة للشرط مستفادَةٌ من الإطلاق الأحوالي (أو الواوي حسب مصطلح المرزا) للشرط، حيث يدل على أن الجزاء مترتب على الشرط في كل حالاته، سواء كان الشرط منفرداً أم كان منضماً إلى شيء آخر، وهذا ما ذكرناه في البحث الأول وناقشناه، فلا نعيد النقاش ولكن ما يهمنا الآن هو أنه أصبح لدينا ظهوران إطلاقيان متعارضان:

أحدهما: ظهور إطلاقي في جانب الشرط وهو الإطلاق الذي يقتضي أن الشرط علةٌ تامةٌ للجزاء، وبالتالي يقتضي عدم التداخل (في فرضنا وهو اجتماع النوم والبول)، فيقتضي أن يكون النومُ علةً تامة للوجوب في القضية الأولى كما يقتضي الإطلاق في القضية الثانية أن يكون البول علة تامة للوجوب. فهناك معلولان (أي: وجوبان) أحدهما وجوب ومعلول للعلة الأولى وثانيهما وجوب ومعلول للعلّة الثانية.

وثانيهما: ظهور إطلاقي في جانب مادة الجزاء (الوضوء) فهي مطلقة أيضاً ويدل إطلاق المادة على أن الواجب هو طبيعي الوضوء. هذا الإطلاق بعكس الإطلاق الأول يقتضي التداخل. ولا معنى لوجوبين متعلقين بأمر واحد وهو طبيعي الوضوء، لأنه من اجتماع المثلين. فكلاهما يحتاج إلى مقدمات الحكمة، ولا ميزة للظهور الأول على الثاني، ولا أقوائية في البين. أي: النكتة التي ذكرها الآخوند لتقديم الظهور الأول على الثاني لا تأتي في المقام.

أجل، يمكن أن يدعى بحسب الذوق العرفي بأن ذاك الإطلاق الأول في جانب الشرط مقدم على هذا الإطلاق الثاني في جانب الجزاء، باعتبار أن ذاك إطلاق للشرط، والشرط في عالم الثبوت والواقع مقدم على الجزاء، إذن يجب أن يكون تابعاً له إثباتاً (عالم الكلام والدلالة) لأصالة التطابق بين عالمي الثبوت والإثبات. فإطلاق الجزاء في طول إطلاق الشرط، والأخير له اليد العليا على إطلاق الجزاء.

لكن هذا البيان صرف دعوى وإن كان من المحتمل أن يكون عرفياً وذوقياً لكنه ليس بياناً فنياً صناعياً لتقديم إطلاق على إطلاق وليس من معايير الترجيح في باب التعارض، والتي هي عرفية أيضاً. لكن على كل حال، لا يهمنا ذلك، لأنه لا نحن نعتبر أن الظهور الإطلاقي الأحوالي الذي تمسك به المشهور إطلاقٌ لا يقتضي عدم التداخل بل ينسجم مع التداخل أيضاً (لما ذكرناه في البحث الأول)، ولا الآخوند، ولذلك عدل عن كلام المشهور إلى الحدوث عند الحدوث، حيث هو الظهور الذي يقتضي عدم التداخل، وهو من إفاداته.

أما إذا ادعي أن الظهور الذي يقتضي عدم التداخل هو الظهور الذي قاله الآخوند وهو ظهور القضية الشرطية في حدوث الجزاء (وجوب للوضوء) عند حدوث الشرط (النوم أو البول)، وهذا الظهور هو الذي تمسك به الآخوند وقال إنه يقتضي عدم التداخل (لأن لدينا وجوبان، وجوب للنوم ووجوب للبول). وهذا الظهور (الحدوث عند الحدوث) قد قبلنا به لكن ضمن شروط ثلاثة ذكرناها سابقاً.

وفي ضوء ذلك نقول في المقام: هذا الظهور المقتضي لعدم التداخل وضعي ولا يحتاج إلى مقدمات الحكمة، لأننا اشترطنا أن يكون الجزاء فعلاً من الأفعال، وللفعل هذه الدلالة على الحدوث بالوضع اللغوي والعرفي، فمن الضروري أن يكون هذا الظهور الأول أقوى (لأنه وضعي) من ذاك الظهور الثاني الذي كان يقتضي التداخل. والأقوائية هي من المرجحات العرفية في باب التعارض. أي: هذه نكتة فنية وصناعية في التقديم، مثل تقديم الخاص على العام، فإن إحدى وجوه تقديم الخاص على العام هو الأقوائية، أو مثل تقديم المقيد على المطلق أو الأظهر على الظاهر أو النص على الظاهر بنكتة الأقوائية.

طبعاً لا نقصد بهذا الكلام أن نقول إن الظهور الوضعي دائماً أقوى من الظهور الإطلاقي في جميع الموارد، فقد يتفق أن تكون لدينا نكتة خاصة تعكس القضيةَ. وفي ما نحن فيه لا توجد نكتة للتساوي أو للتعاكس، فنبقى نحن وهذان الظهوران، فنقدم الظهورَ الذي يقتضي عدم التداخل على الظهور الذي يقتضي التداخل بهذه النكتة التي ذكرها الآخوند وهي نكتة الأقوائية.

وعلى هذا نلتزم في مثالنا (إن نام ثم بال) بأنه يحدث وجوب عند حدوث النوم وكذلك يحدث وجوب عند حدوث البول (طبعاً هذا مجرد مثال لا متعلَّق له في الفقه)، غاية الأمر لكي لا يلزم محذور اجتماع المثلين قيدنا إطلاق المادة في الجزاء. عندما يقول: «إن نمت فتوضأ» يعني توضأ بوضوء غير الوضوء الذي تمثل به الوجوب الأول.

ولا يخفى أن ما نذكره هنا بشأن وجوب الوضوء عند حدوث النوم، ووجوبه أيضاً عند حدوث البول إنما هو من باب المثال طبعاً، أي: من باب افتراض أن وجوب الوضوء بنفسه حكم ووجوب تكليفي عند حدوث النوم والبول، وإلا فبحسب الحقيقة الموجودة في الفقه، ليس مثال الوضوء من الأمثلة الدالة على الحدوث عند الحدوث. فهذا المثال يمكن مناقشته لأن توضأ وإن كان فعلَ أمرٍ، لكنه ملحق بالاسم في عدم الدلالة على الحدوث، فتوضأ لا يدل على حدوث وتحريك وبعث مولوي نحو وضوء، بل «فتوضأ» إرشاد إلى أنه إذا نمت فهذا معناه أنك محدث، وأنت تعيش حالة الحدَث ولا تصح منك الصلاة والأعمال المشروطة بالوضوء. مثل ما يقول: إذا أصاب ثوبك نجس فاغسله، فإن ترك لباسه لسنين ولم يغسله ليس آثماً ولا مذنباً. وكذلك «فقصر» إرشاد وإخبار إلى أن تلك الصلاة التي كنت تصليها تامةً أصبحت الآن قصراً، فكأنه قال: إن خفي الأذان فصلاتك قصر. وهذه جملة اسميه. فهذه نكتة وهي أنه هذا كان من باب المثال، وإلا بالدقة هذا المثال لا يصلح فيما نحن فيه.

فإن قلت: إن هذا الوجه الثاني إنما يتم فيما إذا تقارن الشرطان - لو آمنا بأنه في فرض التداخل يوجد ظهور يقتضي عدم التداخل، وهذا ما أنكرناه في مقامه - أما إذا فرضنا تعاقب الشرطين فلا توجد أقوائية للأول على الثاني؛ لأن الأول الذي يقتضي عدم التداخل ليس عبارة عن مجرد ظهور القضية الشرطية في الحدوث عند الحدوث، وذلك لأن مجرد ظهور القضية في الحدوث عند الحدوث لا يدل على عدم التداخل، وإنما لابد من أن ينضم إليه شيء آخر وهو الشرط الثالث (هو الإطلاق الأزماني) لإثبات عدم انتهاء أمد هذا الوجوب الحادث بالنوم قبل حدوث البول بل استمر الوجوب إلى أن بال. ويثبت هذا الثاني (أن الحكم الذي حدث بالنوم أولاً بقي مستمراً إلى أن حدث البول) بالإطلاق الأزماني وليس بالوضع، وبالتالي أثبتنا عدم التداخل، أي: اجتمع على المكلف وجوبان.

فالظهور المقتضي لعدم التداخل في فرض تعاقب الشرطين ليس عبارة فقط عن ظهور القضية في الحدوث عند الحدوث، بل أصبح ما يدل على التداخل مركباً من أمرين: هذا الظهور الوضعي في الحدوث عند الحدوث والإطلاق الأزماني. والنتيجة تابعة لأخس المقدمات. فيكون في حكم الإطلاق. فما يدل على عدم التداخل يصبح مساوياً مع ما يدل على التداخل فلا توجد نكتة باسم الأقوائية. هذا إشكال سوف يأتي الجواب عنه إن شاء الله تعالى في الدرس القادم.

[1] - كفاية الأصول: ص 204، آل البيت.