الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الاصول

32/02/13

بسم الله الرحمن الرحیم

الجلسة الـ40

كنا نتحدث عن الوجه الذي ذكره المحقق الخراساني لتقديم الظهور المقتضي لعدم التداخل (= الأول) على الظهور المقتضي للتداخل (= الثاني)، حيث أفاد أن وجه التقديم هو أن الأول بيان للقيد فيرفع موضوع الثاني الذي هو عدم البيان. فإن الظهور الأول وضعي لا يحتاج إلى مقدمات الحكمة بينما الثاني بحاجة إليها. ومن جملة مقدمات الحكمة عدم بيان القيد، والظهور الأول بيان للقيد. فكنا بصدد دراسة محتملات هذا الكلام، وانتهينا بالأمس إلى احتمال أن يكون مقصود الآخوند هو أن أحد الظهورين متصل بالآخر، والتعارض واقع بين ظهورين داخلَ جملةٍ واحدة. فمثلاً إن جملة «إن نمت فتوضأ» لها ظهوران:

الظهور الأول: هو الظهور الوضعي في الحدوث عند الحدوث، وهو يقتضي عدم التداخل.

الظهور الثاني: هو الظهور الإطلاقي (إطلاق مادة الجزاء وهو الوضوء) وهذا يقتضي التداخل. فيقدم الأول على الثاني؛ لأن الأول بيان بالنسبة إلى الثاني، ورافع لموضوعه.

الملاحظة: إن كان هذا هو مقصوده فيرد عليه بأن البيان ليس متصلاً في المقام، بلا فرق بين فرض حدوث الشرطين في زمان واحد مقترنين (حدوث النوم والبول) وبين فرض حدوثهما في زمانين متعاقبين.

أما الأول (المقترنان) فالمعارض للظهور الثاني ليس عبارة عن خصوص الظهور الأول، كي يقول الآخوند: فالمعارض متصل؛ لأن من الممكن أن يكون كلا هذين الظهورين في جملة «إن نمت فتوضأ» صادقَيْنِ فيما إذا كان أحد ظهوري الجملة الأخرى كاذباً؛ لأن لدينا جملة أخرى مستقلة وهي جملة «إن بلت فتوضأ». أي: يحدث وجوبٌ للوضوء عند حدوث النوم (وهذا هو الظهور الأول وهو الحدوث عند الحدوث). وأيضاً يمكن صدق الظهور الثاني، فإن هذا الوجوب الحادث عند حدوث النوم وجوبٌ لطبيعي الوضوء. فمثلاً إذا فرضنا أن الجملة الثانية فاقدة للظهور الأول (= الحدوث عند الحدوث) أي: لا يحدث وجوب للوضوء عند حدوث البول، أو يحدث وجوبٌ لكن ظهورها الثاني كاذب، أي: لا يتعلق بطبيعي الوضوء. وإنما هذا الوجوب يتعلق بالوضوء بقيد كونه وضوءاً آخر وحصة أخرى غيرَ الوضوء الذي به يُمتثل الوجوب الأول. فمع كذب أحد ظهوري الجملة الثانية لا يكون الظهوران في الجملة الأولى متعارضين، بل يمكن أن يصدقا معاً.

والحاصل أنه لا محذور أبداً في أن نفترض بأن بحدوث النوم يحدث وجوب ويتعلق بطبيعي الوضوء، لكن عند حدوث البول إما لا يحدث أصلاً وجوب أو إذا يحدث يتعلق بحصة خاصة من الوضوء. إنما المحذور فيما إذا حدث الوجوب عند حدوث النوم ويتعلق بطبيعي الوضوء وكذلك يحدث وجوب عند حدوث البول ويتعلق أيضاً بطبيعي الوضوء، لاستحالة اجتماع المثلين.

فليس معارضُ الظهورِ الثاني في الجملة الأولى، الظهورُ الأول في الجملة الأولى فحسب، بل معارضه مجموعُ الظهور الأول في الجملة الأولى والظهورين الآخرين في الجملة الثانية. لأننا رأينا أنه إن كان أحد ظهوري الجملة الثانية كاذباً، يرتفع التعارض بين ظهوري الجملة الأولى. فالمعارض للظهور الثاني في الجملة الأولى عبارة عن الظهور الأول في تلك الجملة مع ظهوري الجملة الثانية المنفصلة.

فالمعارض مركب من متصل ومنفصلين. ومن الواضح والمعلوم أن المركب من متصل ومنفصلين منفصلٌ. إذن فالظهور الإطلاقي الثاني ليس مبتلى بمعارض يكون عبارة عن ظهور الجملة الأولى نفسها في الحدوث عند الحدوث، كي تقولوا: إن معارضه متصل به وهو بيان، والبيان متصل، فيرتفع موضوع الإطلاق. بل معارضه مجموع ذاك وظهورين آخرين منفصلين.

هذا في الفرض الأول، أي: في فرض اقتران الحدثين في آن واحد. فلم يتم كلام الخراساني في هذا الفرض.

أما الفرض الثاني: وهو فرض تعاقب الحدثين، حدث النوم تحقق أولاً ثم بعد ذلك حدث البول، هنا بما أننا لا نحتمل فقهياً أبداً أن لا يحدث وجوب للوضوء عند حدوث النوم (الحدث الأول) قطعاً، وكذلك لا نحتمل فقهياً بأن هذا الوجوب الحادث بسبب النوم لم يتعلق بطبيعي الوضوء، فمن المقطوع أن هذا الوجوب تعلق بطبيعي الوضوء. فإننا نقطع بكِلا ظهوري جملة «إن نمت فتوضأ»، ونقطع بأن هذا الوجوب متعلق بطبيعي الوضوء. فنقطع فقهياً بحدوث الوجوب لطبيعي الوضوء عند حدوث النوم، وهذا يعني أن ظهوري (الظهور في الحدوث عند الحدوث، وأيضاً الظهور في أن مادة الجزاء مطلقة) الجملة الشرطية الأولى التي تحقق شرطها أولاً، صادقان. وهذا معناه أن كليهما خارجان عن التعارض للقطع بصدقهما معاً من الناحية الفقهية. فيكون التعارض بين ظهوري الجملة الثانية لا محالة، الجملة التي تحقق شرطها ثانياً في زمن لاحق. فسوف يقع التعارض بين ظهوريها: ظهورها في حدوث الوجوب عند حدوث البول، وظهورها في أن المادة مطلقة (أي: الوجوب متعلق بطبيعي الوضوء). لأن ظهورها الأول يقتضي عدم التداخل، إذا حقا يحدث وجوب عند حدوث البول ويكون هذا الوجوب متعلقاً بطبيعي الوضوء، فهذا يلزم منه اجتماع المثلين؛ لأننا نقطع بأنه عندما نام حدث وجوب وتعلق بطبيعي الوضوء، والآن بعد ما يبول، يحدث وجوب وكذلك يتعلق بطبيعي الوضوء؟! هذا ليس صحيحاً.

إذن، عندما يبول، إما لا يحدث الوجوب الأول عند ما يبول، وهذا معناه كذب الظهور الأول، وإما لا يتعلق بطبيعي الوضوء بل بوضوء آخر غير الوضوء الذي يُمتثل به الوضوء الأول، أي الحصة. وهذا معناه أن مادة الجزاء ليست مطلقة.

هنا قد يتوهم أن كلام المحقق الخراساني يصح، باعتبار أن المعارض (ظهور القضية للحدوث عند الحدوث معارض لإطلاق مادة الجزاء) متصل، فهو ليس منفصلاً كما أنه ليس مركباً من متصل ومنفصل. وكلا الظهورين في جملة واحدة (في جملة البول وهي الثانية)، فقد يتوهم أنه لطالما أنهما متصلين فالأول يرفع موضوع الثاني، حيث أن موضوع الثاني (الإطلاق) هو عدم البيان وموضوع الأول البيان.

لكننا نقول: لا يتم كلام الخراساني ره حتى في هذا الفرض؛ وذلك لأن البيان الذي يقيّد إطلاق المادة في الجزاء في القضية الثانية، ليس هذا البيان عبارةً عن الظهور الأول (الحدوث عند الحدوث) في تلك القضية فحسب، كي يقول الآخوند هذا الظهور متصل، فهو بيان متصل يرفع موضوع الإطلاق. وإنما البيان الذي يقيِّد إطلاقَ المادة في الجزاء في القضية الثانية عبارة عن المجموع المركب من هذا الظهور المتصل في داخل هذه القضية الشرطية الثانية ومن ظهوري القضية الشرطية الأولى التي تحقق شرطها قبلاً. أي: «إن نمت فتوضأ». بدليل أننا لو فرضنا أن أحد الظهورين في القضية الشرطية الأولى منتف لم يتم البيان الذي يقيّد إطلاق مادة الجزاء في القضية الشرطية الثانية.

مثلا: لو لم تكن للقضية الشرطية الأولى «إن نمت فتوضأ» الظهورُ الأول (الحدوث عند الحدوث) فلا يوجد لدينا بيان تام لتقييد إطلاق مادة الجزاء في القضية الثانية «إن بلت فتوضأ»؛ لأن ما هو موجود عندنا حينئذ ليس إلا ظهور القضية الثانية في حدوث الوجوب عند حدوث البول.

ومن الواضح أن هذا الظهور (حدوث الوجوب عند حدوث البول) وحده ليس بياناً تاماً لتقييد مادة الجزاء في القضية الثانية؛ لأنه لا تعارض بينهما؛ لأنه ما دام لا يوجد دال على حدوث الوجوب عند حدوث النوم كما هو المفروض. إذن لا محذور في أن يحدث الوجوب عند حدوث البول، ويكون هذا الوجوب متعلقاً بطبيعي الوضوء. وهذا معناه أنه إذا لم يكن الظهور الأول في القضية الأولى موجوداً لم يكن لدينا بيان لتقييد إطلاق المادة في الجزاء في القضية الثانية. هذا بالنسبة إلى فرض ما إذا لم يكن للقضية الأولى ظهورها الأول.

وكذلك فيما إذا كان للقضية الأولى الظهور الأول (الحدوث عند الحدوث) لكن ظهورها الثاني (إطلاق مادة الجزاء) لم يكن موجوداً (أي: لم تكن ظاهرة في أن الوجوب تعلق بطبيعي الوضوء). أي: لا يوجد بيان لتقييد إطلاق مادة الجزاء. وذلك لأن الموجود عندنا حينئذ ليس إلا شيئان:

الأول: ظهور القضية الأولى في حدوث الوجوب عند حدوث النوم.

الثاني: ظهور القضية الثانية في حدوث الوجوب عند حدوث البول.

ومن الواضح أن هذين الظهورين وحدهما لا يشكلان معاً بياناً تاماً لتقييد إطلاق المادة في الجزاء في القضية الثانية. وذلك لعدم التعارض والتنافي بين هذين الظهورين وبين هذا الإطلاق. ولطالما لا يوجد ما يدل على أن الوجوب الحادث بحدوث النوم أولاً متعلقٌ بطبيعي الوضوء، فلا مانع أبداً ولا محذور في أن يكون الوجوب الذي الحادث ثانياً عند حدوث البول متعلقاً بطبيعي الوضوء.

فالحاصل: أن البيان الذي يمكن ادعاء تقييد إطلاق مادة الجزاء في القضية الثانية به، هذا البيان ليس هو خصوص ظهور نفس تلك القضية في الحدوث عند الحدوث. بل البيان هو مجموع هذا الظهور المتصل وظهوري القضية الأولى المنفصلين. فعليه فأصبح البيان مركباً من متصل ومنفصلين أيضاً، ومن الواضح أن المركب من متصل ومنفصلين منفصلٌ. وقد قلنا إن من مقدمات الحكمة عدم البيان المتصل، وليس عدم البيان المطلق ولو منفصلاً. فلم يتم كلام المحقق الخراساني حتى في هذا الفرض. وهو أن الظهور الأول يرفع موضوع الظهور الثاني، بنكتة أنه بيان.

هذا تمام الكلام في الوجه الأول لتقديم الظهور المقتضي لعدم التداخل على الظهور المقتضي للتداخل. فقد قلنا قبل يوم أن الخراساني ذكر وجهين للتقديم. فكان هذا هو الوجه الأول الذي ذكره في متن الكفاية. وهو أن الظهور الأول يقدم على الثاني لأنه يرفع موضوعه ولأنه بيان. هذا الوجه الأول تبين أنه غير تام. وبعد ذلك يجب أن نذكر الوجه الثاني لتقديم الظهور الأول على الثاني. وهذا ما سوف يأتي إن شاء الله غداً.