الاستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الاصول

32/01/26

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: مفهوم الشرط / تنبيهات مفهوم الشرط / التنبيه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حيث تداخل الأسباب والمسببات

قلنا إن البحث الحالي يختلف عن البحث السابق وبينا هذا الاختلاف والفرق وذكرنا أيضاً أنه لا طولية بين البحثين وقلنا إنه لكي يتضح عدم الطولية ينبغي الالتفات إلى نكتتين:

النكتة الأولى ما ذكرناه في الدرس السابق، وهو أن النسبة بين البحثين العموم والخصوص من وجه، وقد شرحنا ذلك.

والنكتة الثانية هي أنه في مادة الاجتماع، عندما يجتمع البحثان في مورد، وقد ذكرنا هذا المورد في الدرس السابق، حينئذ لا يكون البحث الحالي في طول البحث السابق، بل أن الطولية بمعنى أن أحد البحثين مبني على بعض المباني في البحث الآخر، الطولية بهذا المعنى ثابتة من كلا الطرفين، وليست من طرف واحد. يعني: البحث الحالي مبتن على بعض مباني البحث السابق، وكذلك البحث السابق مبتن على بعض مباني البحث الحالي، كما ينتفي البحث الحالي في هذا التنبيه إذا بنينا على بعض المباني في البحث السابق، كذلك العكس، ينتفي البحث السابق إذا بنينا على بعض المباني في بحثنا الحالي.

مثلا لو اخترنا في البحث السابق أن كلا من الشرطين جزء العلة للحكم، أي: قدمنا إطلاق المفهومين وقيدنا إطلاق المنطوقين، فإن الأخير كان يقتضي أن كل من الشرطين سبب مستقل وعلة تامة، فإذا بنينا في البحث السابق على هذا المبنى واخترنا هذا الطريق فسوف ينتفي هذا البحث في هذا التنبيه الحالي. فإذا كان هناك سبب آخر للحكم مركب من جزئين، فلا معنى للسبب الواحد أن نبحث عن أنه هل يتداخل أو لا يتداخل؟ فلا معنى للتداخل أساساً.

فالبحث الحالي مبتن على أن نقدم إطلاق المنطوقين، وبالعكس. أي: لو اخترنا في البحث الحالي حيث قلنا إنه يتعارض ظهور الشرط مع ظهور الجزاء، ظهور الشرط يقتضي عدم التداخل، وظهور الجزاء يقتضي التداخل. لو رفعنا اليد عن إطلاق المادة في الجزاء وقيدنا هذا الإطلاق، فسوف ينتفي البحث السابق، فهذا التعارض سوف لا يبقى له مجال (إذا قيدنا إطلاق المادة في الجزاء)، فمعنى ذلك أن حصة خاصة من المادة (إكرام) تجب بسبب هذا الشرط (مجيء زيد)، فحصة خاصة من الإكرام تثبت بمجيء زيد، وحصة خاصة من الإكرام تثبت وتجب بقراءة زيد القرآن، هكذا يصبح منطوق الدليلين، وليس طبيعي الإكرام، بل حصة من الإكرام. والمفهوم هو انتفاء هذه الحصة بانتفاء هذا الشرط، وتنتفي تلك الحصة بانتفاء قراءة القرآن. فلا تعارض أساساً بين المفهوم والمنطوق. المفهوم يقول: بانتفاء المجيء تنتفي حصة خاصة من الإكرام، ومنطوق ذاك يقول: بانتفاء قراءة القرآن تنتفي الحصة الأخرى من الإكرام. فلا يبقى مجال للبحث السابق.

إذن اتضح أن الطولية ثابتة من كلا الطرفين. ومن هنا ينفتح باب للبحث وهو هل الفقيه عليه أن يبدأ بالبحث السابق؟ أم يجب عليه أن يبدأ بهذا البحث الحالي؟ فإن النتيجة قد تختلف إذا بدأ بذاك البحث عما إذا فتح بهذا البحث.

مثلا إذا بدنا بذاك البحث فقد يختار الفقيه أن كلا من الشرطين جزء العلة للحكم، ومجموعهما سبب واحد، وحينئذ حينما يصل إلى هذا البحث في هذا التنبيه لا يجد مجالاً لهذا البحث. لأنه لا يجد سببين مستقلين للحكم هنا حتى يبحث عن تداخلهما أو عدم تداخلهما، بل يجد سببا واحداً. والعلة الواحدة تولِّد حكماً واحداً. وبالتالي يفتي هذا الفقيه بأنه لا يثبت على هذا المكلف إلا حكم ووجوب واحد. هذا إن بدنا بذاك البحث.

لكن إذا بدأ الفقيه بهذا البحث فقد يختار في هذا البحث (التعارض فيه بين ظهور الشرط وظهور الجزاء) رفع اليد عن إطلاق الجزاء (تقييد المادة)، وهذا معناه أنه تجب بسبب كل من الشرطين حصةٌ خاصة من طبيعي الإكرام. غير الحصة التي تجب بسبب قراءة القرآن. وحينئذ إذا اختار هذا، فحينما يصل إلى ذاك البحث لا يجد مجالاً له؛ لأن البناء هناك كان على تعارض المفهوم والمنطوق، ولا تعارض بينهما (فإن منطوق «إن جاء زيد فأكرمه» هو ثبوت وجوب الإكرام عند مجيء زيد، ومفهوم «إن قرأ زيد القرآن فأكرمه» هو انتفاء وجوب حصة من الإكرام). فلا تعارض بين ثبوت وجوب حصة من الإكرام بالمجيء وانتفاء وجوب حصة من الإكرام بانتفاء قراءة القرآن. فيفتي الفقيه بأن إذا اجتمع المجيء مع قراءة القرآن يثبت على المكلف وجوبان. فرأينا أن النتيجة تختلف فيما إذا بدأ بذاك البحث عما إذا بدأ بهذا البحث. فماذا يصنع؟ فهل يمارس الفقيه البحثين في عرض واحد معاً؟ أم يقدم أحدهما على الآخر؟ أو يخيّر في البدء بأيهما شاء؟ أو يقال رأساً بعدم وجود بحثين وإنما عندنا بحث واحد يتطرق له الفقيه؟ كل هذا لا سبيل إليه وذلك كالتالي:

أما الأول: أن نقول يمارس البحثين معاً في عرض واحد، فقد قلنا إن البحثين في طول الآخر وليس في عرض الآخر. أي: حل كل من التعارضين يؤثر على حل التعارض الآخر.

وأما الثاني: أنه يبدأ بأحدهما معيناً دون الآخر، فهذا ترجيح بلا مرجح.

وأما الثالث: وهو أن يكون مخيَّراً، فغير معقول أيضاً؛ لما قلنا بأن النتيجة تختلف إذا بدأ بهذا دون ذاك.

وأما الرابع: بأن نقول إن البحثين - أساساً - بحث واحد، وإن التعارضين متحدان في تعارض واحد رباعي الأطراف، فلا يوجد عندنا تعارضان حتى يقال بأيهما يبدأ الفقيه؟ بل هناك تعارض واحد بين أربعة أطراف هي: إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم وظهور الشرط وظهور الجزاء. وهذا الكلام أيضاً غير صحيح، وذلك لأنه ليس عندنا تعارض واحد ذو أربعة أطراف؛ لأن آية وحدة التعارض وعلامتها هي أنه إذا رفعنا اليد عن أحد هذه الأمور يسلم الباقي.

هنا إذا رفعنا اليد عن إطلاق المنطوق (الذي كان يقتضي بأن كل من الشرطين علة تامة مستقلة) فيرتفع التعارض بين ظهور الشرط (يقتضي عدم التداخل) وظهور الجزاء (يقتضي التداخل)، ولكن السبب الواحد لا قابلية فيه للتداخل وعدم التداخل.

فالتعارض بين ظهور الشرط وظهور الجزاء وإن كان يرتفع برفع اليد عن إطلاق المنطوق، لكن هذا التعارض لا يرتفع برفع اليد عن إطلاق المفهوم، أي: قدمنا إطلاق المنطوق (هذا الشرط سبب مستقل وذاك الشرط أيضاً سبب مستقل) على إطلاق المفهوم وقلنا بأن كل الشرطين سبب مستقل، حينئذ نرى أن التعارض بين ظهور الشرط وظهور الجزاء باق.

أو مثلاً أنكرنا المفهوم، ولم نقدم إطلاق المفهوم على إطلاق المفهوم، وأساساً كنا من منكري مفهوم الشرط، فلا يرتفع التعارض بين ظهور الشرط وظهور الجزاء كما قلنا سابقاً، مع ذلك الشرط ظاهر في أنه مؤثِّر مستقل يولِّد حكماً مستقلاً والجزاء ظاهر في أن الطبيعي هو المعلق على الشرط، والطبيعي لا يمكن أن يكون له مولدان. فيبقى التعارض بين ظهور الشرط وظهور الجزاء، حتى لو رفعنا اليد عن إطلاق المفهوم وقدمنا إطلاق المنطوق.

هذا معناه إذن، ليس التعارض تعارضاً واحداً، فلو كان التعارض واحداً فبرفع اليد عن أحد هذه الأربعة ينحل التعارض. بينما ليس هكذا فقد رأينا أنه حتى لو رفعنا اليد مثلا عن إطلاق المفهوم وقدمنا إطلاق المنطوق سوف نجد أن التعارض بين ظهور الشرط وظهور الجزاء باق. وهذا معناه أنه يوجد تعارض بين ظهور الشرط وظهور الجزاء وأيضاً يوجد تعارض آخر بين المنطوق والمفهوم. أي: تعارضين وليس تعارضاً واحداً.

كذلك العكس، يعني: التعارض بين إطلاق المنطوق (الذي يقتضي كون كل من الشرطين سبباً مستقلاً) مع إطلاق المفهوم (الذي يقتضي كون كل من الشرطين جزء السبب)، وإن كان يرتفع هذا التعارض فيما إذا رفعنا اليد عن ظهور الجزاء (الذي يقتضي التداخل) وقيدنا إطلاق المادة وقلنا: إن حصة من الإكرام تجب بسبب المجيء وحصة أخرى من الإكرام تجب بسبب قراءة القرآن، أي: رفعنا اليد عن ظهور الجزاء، فحينئذ لا يبقى تعارض بين إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم، لأن المنطوق يصبح عبارة عن أنه يجب حصة من الإكرام بالمجيء وينتفي وجوبها بانتفاء المجيء، وتجب حصة أخرى من الإكرام بقراءة القرآن وينتفي وجوبها بانتفاء قراءة القرآن. فلا تعارض بين المفهوم والمنطوق.

لكن هذا التعارض بين إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم لا يرتفع إذا رفعنا اليد عن ظهور الشرط (دون ظهور الجزاء) وليس ظهور الجزاء (أي: المادة مطلقة في الجزاء، والإكرام يعني طبيعي الإكرام وليس حصة منه) وقلنا بأن السببين يتداخلان عند ما يجتمعان ويولِّدان وجوباً واحداً على المكلف، لكن ما دام متعلق هذا الوجوب الواحد عبارة عن طبيعي الإكرام (لأننا افترضنا أن وجوب الإكرام باق) يبقى التعارض بين إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم؛ لأن المنطوق يقول: الشرطان كل منهما سبب مستقل لوجوب طبيعي الإكرام، بينما المفهوم يقول: الشرطان كل منهما جزء سبب لوجوب طبيعي الإكرام. فيبقى التعارض على حاله.

إذن لا يوجد لدينا تعارض واحد رباعي الأطراف. وعليه فالسؤال الذي طرحناه ما زال باقياً. فإن النتيجة قد تختلف عما إذا بدأ بهذا أو بدأ بذاك.

الجواب: هو أن النتيجة وإن كانت تختلف إذا بدأ بهذا عما إذا بدأ بذاك، إلا أنه مع ذلك لا محذور في البدء بأيهما، ولا يجب أن يبدأ بالبحث السابق قبل هذا البحث، أو العكس. إذ لا طولية من طرف واحد بين البحثين بل الطولية من الطرفين، أي: البحثان بحسب طبيعتهما في عرض واحد؛ لأن كل واحد منهما يعالج تعارضاً غير التعارض الذي يعالجه البحث الآخر. أي: عندنا تعارضان وليس تعارض واحد رباعي الأطراف. لكن كل من التعارضين ثلاثي الأطراف. ولا طولية بين التعارضين أبداً.

البحث السابق (في التنبيه المتقدم) يعالج تعارضاً ثلاثي الأطراف وهو تعارض بين إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم وظهور الجزاء في كون الواجب هو الطبيعي. وإنما نقول: التعارض الذي يتكفل ذاك البحث بعلاجه ثلاثي الأطراف، لأن العلامة التي ذكرناها لوحدة التعارض موجودة، فإن التعارض يرتفع بأكمله بسبب رفع اليد عن أحد هذه الأطراف الثلاثة. فمثلاً لو رفعنا اليد عن إطلاق المنطوق، أي: قلنا بأن كل من الشرطين جزء السبب، فلا يبقى التعارض بين إطلاق المفهوم وبين ظهور الجزاء. مادام أصبح كل من الشرطين جزء السبب (أي: مجموع الشرطين سبب واحد لوجوب الطبيعي) وظهور الجزاء محفوظ، وبانتفاء هذا السبب ينتفي وجوب الطبيعي. وكذلك إذا رفعنا اليد عن إطلاق المفهوم، وكذلك إذا رفعنا اليد عن الجزاء. وتكملة البحث إن شاء الله غداً.