الاستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الاصول

32/01/16

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: مفهوم الشرط / تنبيهات مفهوم الشرط / التنبيه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء في دليلين

انتهينا إلى المبنى الثالث، فنريد معالجة التعارض الموجود بين إطلاق المنطوق في كل من الدليلين وإطلاق المفهوم في الدليل الآخر، على أساس مبنى آخر من المباني المتقدمة، حيث ذكرناه ضمن التقريب الثاني من تقريبات القوم في إثبات مفهوم الشرط.

المبنى الثالث: ما تقدم من دعوى انصراف إطلاق الجملة الشرطية الدالة وضعاً على اللزوم إلى أكمل أفراد اللزوم وأجلاها وهو اللزوم العِلّي الانحصاري، فإطلاق الشرط منصرف إلى الفرد الأكمل من أفراد العلة وهو عبارة عن العلة التامة المنحصرة، فتدل الجملة حينئذ على انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط لانتفاء علّته المنحصرة ويثبت المفهوم. وقد مضى منّا سابقاًَ - عند بيان هذا التقريب - وجهان لبيان الانصراف:

أحدهما أن يقال: إن غير الأكمل محدود بحدّ عدمي وهو عدم الكمال، فحدّه ليس داخلاً في حقيقته، بخلاف الأكمل فإنه محدود بحد وجودي وهو الكمال، فحدّه داخل في حقيقته ومن سنخ نفس الطبيعة، نظير النور الضعيف والنور القوي.

وعليه فلو كان المراد بالشرط الفرد الأكمل من أفراد العلة - وهو العلة التامة المنحصرة - فحيث أن كماله داخل في حقيقته فهو بتمامه علة. إذن، فقد انطبق ما في عالم الإثبات - وهو العلة - على تمام المراد في عالم الثبوت.

وأما لو كان المراد به غير الأكمل - وهو العلة غير التامة وغير المنحصرة - فحيث أنه ناقص ونقصه ليس داخلاً في حقيقته فهو بتمامه ليس علة. إذن، فلم ينطبق ما في عالم الإثبات على تمام المراد في عالم الثبوت؛ إذ لم يُبيَّن في عالم الإثبات إلا ذات العلة، لا تخصصها بخصوصية خارجة عن حقيقتها وتحددها بحدّ عدمي، ومن الواضح أن أصالة التطابق بين عالم الإثبات وعالم الثبوت تقتضي الأول، أي: أن إطلاق العلة يقتضي كون المراد خصوص الفرد الأكمل وينصرف إليه خاصة؛ إذ الحدّ العدمي شيء زائد وبحاجة إلى بيان إضافي ومؤونة زائدة، فلو كان المقصود بالشرط العلة بضميمة هذا الأمر العدمي لاحتاج إلى بيان زائد.

ثانيهما أن يقال رأساً - بغض النظر عن البيان الفلسفي السابق الذي لا يلتفت إليه العرف بفهمه العرفي -: إن اللفظ الموضوع للجامع والطبيعي عادة ينصرف عرفاً في أذهان الناس عند إطلاقه إلى أكمل الأفراد، فأداة الشرط أو الجملة الشرطية الموضوعة للربط اللزومي تنصرف عرفاً عند إطلاقها إلى أكمل أفراده وهو الربط اللزومي العلي الانحصاري.

فعلى الوجه الأول قد يقال في المقام بوقوع التعارض بين هذا الإطلاق المنصرف إلى الفرد الأكمل وبين الإطلاق الأحوالي - الإطلاق الواوي - الدال على أن الشرط علة تامة؛ فإن الإطلاق الأحوالي في كل من الدليلين يقتضي أن الشرط وحده كاف في ثبوت الحكم، بينما إطلاق الشرط في الدليل الآخر ينصرف إلى الأكمل ويدل على أن الشرط الآخر المذكور في ذاك الدليل علة تامة منحصرة للحكم وبالتالي يدل على انتفاء الحكم بانتفائه وإن كان الشرط الأول موجوداً، فيتعارضان ويتساقطان.

لكن الصحيح هو أنه بناءًا على هذا المبنى يتعين الأخذ بالمنطوقين في الدليلين، أي: الإطلاق الأحوالي - الواوي - في كل منهما، ورفع اليد عن المفهومين فيهما، أي: إطلاق الشرط المنصرف إلى الفرد الأكمل فيهما، فإن هذا الإطلاق ساقط في المقام؛ لأن الانصراف إلى الفرد الأكمل في كل واحد من الدليلين معناه الانصراف إلى العلة التامة المنحصرة، بينما نعلم جزماً ويقيناً بالعلم التفصيلي - بعد ورود الدليلين - ببطلان هذا الانصراف وكذبه وعدم كون الشرط المذكور في كل منهما علة تامة منحصرة على كل حال، للعلم إجمالاً بأن الشرط المذكور في كل واحد منهما إما أنه جزء علة للجزاء وليس علة تامة له، وإما أنه ليس علة منحصرة وإن كان علة تامة، فأكمل الأفراد - وهو العلة التامة المنحصرة - ليس هو المراد في كل من الدليلين قطعاً، فيبقى إطلاق المنطوق في كل من الدليلين - أي: الإطلاق الأحوالي المقابل للواو، والدال على أن الشرط علة تامة للجزاء - على حاله، ويسقط الإطلاق الدال على المفهوم وهو إطلاق الشرط المنصرف إلى الفرد الأكمل، وإذا سقط المفهوم لكل من الدليلين فهو يسقط نهائياً ورأساً ولا يبقى في أي من الدليلين ما يدل حتى على نفي العدل الثالث - غير الشرطين المذكورين في الدليلين - لأن الدال على المفهوم بناءًا على هذا المبنى هو الانصراف إلى الفرد الأكمل، فإذا علمنا بكذب هذا الانصراف إلى الفرد الأكمل، فإذا علمنا بكذب هذا الانصراف وبطلانه وعدم إرادته ينتفي المفهوم نهائياً؛ إذ أن أكمل الأفراد وهو العلة التامة المنحصرة في شيء واحد فقط غير مراد جزماً كما تقدم، وما هو أقل منه ويتلوه في الكمال وهو العلة التامة المنحصرة في شيئين فقط لا معيّن له، فلا يمكن نفي الثالث أيضاً بمفهومي الدليلين، لسقوط الدال على المفهومين رأساً.

وبعبارة أخرى: لا يتبعض المفهوم ولا يثبت حتى بشكل جزئي لنفي الثالث بل ينتفي نهائياً. وهذا بخلاف ما انتهينا إليه بناء على المبنيين الأولين - أي مبنى المحقق النائيني ره والمبنى المختار - حيث أن المفهوم لم يكن ينتفِ نهائياً بناءًا عليهما بعد سقوطه بالتعارض، بل كان يتبعض ويثبت بشكل جزئي لنفي الثالث، والنكتة في ذلك هي أن الدال على المفهوم بناءًا على ذينك المبنيين كان عبارة عن الإطلاق - أي الإطلاق الأوي بناء على مبنى المحقق النائيني ره، وإطلاق التوقف والمتوقِف بناءًا على المبنى المختار - ومن الواضح أن الإطلاق قابل للتقييد والتبعيض، فيكون المفهوم قابلاً للتجزئة والتبعيض، فينفى بالمفهومين - في مثل ما نحن فيه، أي: في قوله: «إن خفي الأذان فقصّر» وقوله: «إن خفي الجدار فقصّر»، وجود علة ثالثة لوجوب القصر غيرهما ويبقى الدليلان يدلان بمفهوميهما على عدم وجوب القصر عند انتفاء الخفائين. ولا مبرر لانهدام المفهوم رأساً وانكساره نهائياً وبالمرة؛ إذ بثبوت عدل آخر للشرط رفعنا اليد عن الإطلاق الدال على المفهوم بمقدار العدل فقط لا أكثر، لأن الإطلاق معناه عدم ذكر القيد، فلا يرفع اليد عن الإطلاق إلا بمقدار القيد المذكور وهو العدل الآخر للشرط، فإن ثبوت قيد في مورد لا يهدم إلا الإطلاق المقابل لهذا القيد خاصة دون الإطلاقات الأخرى المقابلة لسائر القيود المتصوَّرة غير المذكورة من قبل المتكلم كما هو واضح. وهذا بخلاف الأمر بناء على هذا المبنى، فإن الدال على المفهوم بناء على هذا المبنى هو الانصراف إلى أكمل الأفراد - وهو العلة ا لتامة المنحصرة وذلك بالوجه الأول المتقدم آنفاً لبيان الانصراف - فإذا علمنا ببطلان هذا الانصراف وكذبه جزماً وأن المراد من الشرط في كل من الدليلين ليس هو العلة التامة المنحصرة - كما تقدم - إذن، فسوق يسقط المفهوم نهائياً ولا يثبت حتى بشكل جزئي ولا يكون قابلاً للتجزئية والتبعيض، وبالتالي فلا يمكن أن يُنفى بالمفهومين فيما نحن فيه وجود علة ثالثة لوجوب القصر غير خفاء الأذان وخفاء الجدار، ولا يدل الدليلان بمفهوميهما على عدم وجوب القصر عند انتفاء الخفائين؛ إذ لا دال على المفهوم أصلاً بعد سقوط الانصراف المذكور وبطلانه كما هو واضح.

إذن، فالمتعين - بناء على هذا المبنى - الأخذ بالمنطوقين ورفع اليد عن المفهومين.