الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

31/02/10

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِيَّة الاكتشافية/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

وأمّا الدَّلِيل الَّذي يمكن الاستدلال به على صحَّة المبنى الْمَشْهُور وبطلان مبنى المُحَقِّق الإِصْفِهَانِيّ رَحِمَهُ اللَهُ فهو أَنَّهُ لا إِشْكَال فِي أن جُمْلَة الشَّرْطِ وحدها قبل دخول أَدَاة الشَّرْطِ عليها جملة تامَّة يصحّ السُّكوت عليها، لكن بمجرّد دخول أَدَاة الشَّرْطِ عليها تتحول إلى جملة ناقصة لا يصحّ السُّكوت عليها؛ فقولنا مثلاً: «جاء زيد» كلام تامّ يصحّ الاكتفاء به والسكوت عليه، لكن قولنا: «إن جاء زيد» لَيْسَ كَلاَماً تامّاً ولا يصحّ الاكتفاء به والسكوت عليه.

 إذن، فهذا التَّحَوُّل الَّذي حصل فِي هذه الجملة وهذا النقض الَّذي طرأ عليها وهذا الخروج من صحَّة السُّكوت عليها إلى عدم صحَّة السُّكوت عليها إِنَّمَا كان بسبب أَدَاة الشَّرْطِ بلا إِشْكَال، وهذا إِنَّمَا يمكن تفسيره على المبنى الْمَشْهُور ولا يمكن تفسيره على مبنى المُحَقِّق الإِصْفِهَانِيّ رَحِمَهُ اللَهُ.

توضيح ذلك وتفصيله هو: أن هناك فِي بادئ النَّظَر احتمالين فِي مقام تفسير هذا الخروج من صحَّة السُّكوت إلى عدم صحته:

الأوّل: أن يقال إن أَدَاة الشَّرْطِ بَدَّلَتْ النِّسْبَة التَّامَّة الثَّابِتَة بين الفعل والفاعل (الَّتي كانت تَدُلّ جُمْلَة الشَّرْطِ قبل دخول أَدَاة الشَّرْطِ عليها) إلى نسبة ناقصة، فأصبحت النِّسْبَة الَّتي تَدُلّ عليها الجملة بعد دخول الأداة عليها مغايرة مع النِّسْبَة الَّتي كانت تَدُلّ عليها قبل دخول الأداة، من قبيل التَّغَايُر بين النِّسْبَة فِي «جاء زيد»، وَالنِّسْبَة فِي «مجيء زيد»، فبهذا الاعتبار لا يصحّ السُّكوت على الجملة بعد دخول الأداة عليها؛ لعدم صحَّة السُّكوت عَلَى النِّسْبَةِ الناقصة.

الثَّانِي: أن يقال: إن أَدَاة الشَّرْطِ لم تبدّل النِّسْبَة من التَّمَامِيَّة إلى النُّقْصَان، بل النِّسْبَة باقية على حالها تامَّة لم تتغيّر ولم تتبدّل كما كانت قبل دخول الأداة عليها، ولكن مع هذا لا يَصِحُّ السُّكُوتُ على الجملة بعد دخول الأداة؛ لأَنَّ للأداة معنى يُنتظَر معه لحوق شيء بجملة الشرط، ومع عدم اللحوق لا يكتمل معنى الأداة، فجملة الشرط فِي نفسها وإن كانت كاملة مِنْ دُونِ لحوق الْجَزَاء، إلاَّ أن معنى الأداة لا يكتمل إلاَّ بمجيء الْجَزَاء ولحوقه، وهذا يوجب عدم صحَّة السُّكوت على الجملة، وعدم صحَّة الاكتفاء بها بعد أن دخلت عليها الأداة، فعدم صحَّة السُّكوت عليها بعد دخول الأداة لم ينشأ من نقصان النِّسْبَة الَّتي تَدُلّ عليها الجملة، بل نشأ من نقصانٍ فِي معنى الأداة.

 هذان احتمالان فِي تفسير عدم صحَّة السُّكوت على الجملة بعد دخول الأداة.

 ففي ضوء الاحتمال الأوّل لا يمكن ترجيح المبنى الْمَشْهُور ولا مبنى المُحَقِّق الإِصْفِهَانِيّ رَحِمَهُ اللَهُ؛ لأَنَّ كلا المبنيين يتلائم مع هذا الاحتمال؛ إذ بإمكان كل منهما أن يدّعي أنَّ النِّسْبَة التَّامَّة تَتَغَيَّرُ وتتبدّل إلى النِّسْبَة الناقصة بمجرّد دخول الأداة على الجملة؛ فَإِنَّ هذا التغيّر والتبدّل فِي النِّسْبَة من التَّمَامِيَّة إلى النقصان ينسجم مع الرَّأْي الْمَشْهُور القائل بأن معنى الأداة هو الرَّبْط بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، كما ينسجم أيضاً مع رأي الْمُحَقِّق الإِصْفِهَانِيّ القائل بأن معنى الأداة هو الفرض والتقدير.

 والحاصل أن شيئاً من المبنيين لا ينافي ولا ينفي خروج النِّسْبَة من التَّمَامِيَّة إلى النُّقْصَان.

 وأمّا فِي ضوء الاحتمال الثَّانِي فيتمّ الرَّأْي الْمَشْهُور دون رأي المُحَقِّق الإِصْفِهَانِيّ رَحِمَهُ اللَهُ.

 أَمَّا تَمَامِيَّة الرَّأْي الْمَشْهُور فَلأَنَّ هذا الرَّأْي يقول: إن الأداة موضوعة لِلرَّبْطِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ «الرَّبْط» بين طرفين لا يكتمل إلاَّ بثبوت كليهما، فما لم يأت الْجَزَاء فِي الكلام لا يكون المعنى الَّذي وضعت له الأداة مكتملاً، ولذا فلا يصحّ السُّكوت على جُمْلَة الشَّرْطِ بعد دخول الأداة عليها، رغم أنَّها جملة تامَّة تَدُلّ على نسبة تامَّة؛ وذلك لعدم اكتمال معنى الأداة.

 وأمّا عدم تَمَامِيَّة رأي المُحَقِّق الإِصْفِهَانِيّ رَحِمَهُ اللَهُ فَلأَنَّ أَدَاة الشَّرْطِ عنده رَحِمَهُ اللَهُ موضوعة لإفادة كون مدخولها واقعاً موقع الفرض والتقدير، وهذا المعنى لا يستوجب شيئاً وراء وجود المدخول، وحينئِذٍ ففي قولنا: «إذا جاء زيد ..» تكون الأداة مستكملة لمعناها، فينبغي أن يصحّ السُّكوت عليها، مع أَنَّهُ لا إِشْكَال فِي عدم صحَّة السُّكوت عليها.

 والحاصل أن الاحتمال الثَّانِي لا يناسب مبنى المُحَقِّق الإِصْفِهَانِيّ رَحِمَهُ اللَهُ ولا ينسجم معه؛ إذ لو كانت النِّسْبَة الَّتي تَدُلّ عليها جُمْلَة الشَّرْطِ فِي نفسها تامَّة حتّى بعد دخول الأداة عليها (كما هو المفروض فِي الاحتمال الثَّانِي) فلماذا لا يمكن الاكتفاء بجملة الشرط بمجرّد دخول الأداة عليها؟ أليست الأداة فِي رأي المُحَقِّق الإِصْفِهَانِيّ رَحِمَهُ اللَهُ تَدُلّ على افتراض المدخول وجعله مقدّر الوجود؟ فلتكن الأداة حينئذٍ دالَّة على افتراض هذه النِّسْبَة التَّامَّة (الَّتي تَدُلّ عليها جُمْلَة الشَّرْطِ) وجعلها مقدَّرة الوجود.

 وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ مجرّد افتراض النِّسْبَة التَّامَّة وتقديرها لا يسبب عدم إمكان الاكتفاء بها وعدم صحَّة السُّكوت على الجملة الَّتي تَدُلّ عليها، ونحن نعلم أن الافتراض لَيْسَ من قبيل الرَّبْط كي يحتاج إلى طرف آخر وينتظر شيئاً آخر غير متعلّقه، وبهذا يبطل كلام المُحَقِّق الإِصْفِهَانِيّ رَحِمَهُ اللَهُ.

 إذن، فلا بُدَّ من أن نُثبت أن الاحتمال الثَّانِي (فِي تفسير عدم صحَّة السُّكوت على الجملة بعد دخول الأداة) هو المتعيّن، وأن الاحتمال الأوّل غير صحيح، فإذا أمكن ذلك فلا محالة تثبت صحَّة الرَّأْي الْمَشْهُور فِي قِبَال رأي المُحَقِّق الإِصْفِهَانِيّ رَحِمَهُ اللَهُ.

 وإثبات بطلان الاحتمال الأوّل وعدم صحته يكون ببيان أَمْرَيْنِ:

الأمر الأوّل: أن جُمْلَة الشَّرْطِ لها مدلول تصديقي باعتراف المُحَقِّق الإِصْفِهَانِيّ رَحِمَهُ اللَهُ؛ لأَنَّهُ رَحِمَهُ اللَهُ يقول: إن أَدَاة الشَّرْطِ موضوعة لإفادة كون مدخولها واقعاً موقع الفرض والتقدير، ومقصوده رَحِمَهُ اللَهُ هو أنَّها تكشف عن ثبوت الفرض والتقدير فِي نفس الْمُتِكَلِّم وتدلّ على وجوده فِي أفق النَّفس، وهذا هو معنى الدِّلاَلَة التصديقية، وليس مقصوده رَحِمَهُ اللَهُ أنَّها تَدُلّ على مفهوم الفرض بنحو الدِّلاَلَة التَّصوُّريَّة كما هو واضح.

الأمر الثَّانِي: أن الجملة لا يعقل أن يكون لها مدلول تصديقي إلاَّ إذا كانت جملة تامَّة مشتملة على نسبة تامَّة؛ فَإِنَّ الجملة التَّامَّة المشتملة عَلَى النِّسْبَةِ التَّامَّة هي الَّتي تفيد مدلولاً تَصْدِيقِيّاً؛ فالجملة التَّامَّة الخبريّة مثلاً تفيد ما فِي نفس الْمُتِكَلِّم من الإخبار، والجملة التَّامَّة الاستفهامية تفيد ما فِي نفس الْمُتِكَلِّم من الاِسْتِفْهَام، وجملة الأمر تفيد ما فِي نفس الْمُتِكَلِّم من الحكم، وهكذا.. وأمّا الجملة الناقصة غير المشتملة عَلَى النِّسْبَةِ التَّامَّة فيستحيل إفادتها مدلولاً تَصْدِيقِيّاً؛ فقولنا مثلاً: «مجيء زيد» لا يفيد أن الْمُتِكَلِّم يُخبر عن مجيء زيد، أو يستفهم عنه، أو يأمر به، أو أيّ شيء آخر.

 وهذا المطلب حقَّقناه فِي بحث معاني الحروف والهيئات عندما كُنَّا نبحث عن الفرق بين الجملة وَالنِّسْبَة التَّامَّة وبين الجملة وَالنِّسْبَة الناقصة، حيث كانت توجد هناك فِي مقام التمييز والتفريق بينهما نظريتان:

إحداهما: أن تَمَامِيَّة الجملة وَالنِّسْبَة إِنَّمَا هي بالمدلول التَّصديقيّ، فالجملة وَالنِّسْبَة التَّامَّة هي ما كان على طبقها مدلول تصديقي، والجملة وَالنِّسْبَة الناقصة هي الَّتي لا يكون على طبقها مدلول تصديقي. وقد تبنّى هذه النَّظريّة السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رَحِمَهُ اللَهُ وَقَالِ: إِنَّ هيئة الجملة الناقصة موضوعة لِلتَّحْصِيصِ، بينما هيئة الجملة التَّامَّة موضوعة لإبراز أمر نفساني كقصد الحكاية فِي الجملة الخبريّة، وقصد الإنشاء فِي الجملة الإنشائية.

ثانيتهما: أن تَمَامِيَّة الجملة وَالنِّسْبَة إِنَّمَا هي بالمدلول التَّصوُّريّ لا التَّصديقيّ. وهذه هي النَّظريّة المشهورة؛ فالجملة التَّامَّة هي الَّتي تَدُلّ تصوُّراً على نسبة تامَّة، والجملة الناقصة هي الَّتي تَدُلّ تصوُّراً على نسبة ناقصة، فالفرق بين مدلولي الْجُمْلَتَيْنِ تصوُّريّ وَالنِّسْبَة نفسها على قِسْمَيْنِ: تامَّة وناقصة.

 وقلنا هناك: إن تَمَامِيَّة النِّسْبَة إِنَّمَا هي بكونها نسبة واقعية فِي صقع الذِّهْن، بمعنى وجود مفهومين فِي الذِّهْن مع نسبة تربط بينهما، ونقصانها إِنَّمَا هو بكونها نسبة تحليليّة، بمعنى وجود مفهوم واحد فِي الذِّهْن إذا حلَّله الذِّهْن رآه مُرَكَّباً من طرفين مع نسبة؛ فالنسبة الناقصة تُرجع الكلمتين إلى كلمة واحدة، بخلاف النِّسْبَة التَّامَّة.

 وقلنا هناك: إن الضّابط العامّ لتشخيص النِّسْبَة الواقعية عن النِّسْبَة التحليلية هو أن كل نسبةٍ يكون موطنها الأصلي هو العالم الخارج فهي نسبة تحليليّة وبالتَّالي فهي ناقصة، وكل نسبة يكون موطنها الأصلي هو عالم الذِّهْن فهي نسبة واقعية وَبِالتَّالِي فهي تامَّة.

 هذا ما قلناه هناك وتَبَنَّيْنَاه واخترناه، وفي ضوئه فالمدلول التَّصديقيّ يكون فرع النِّسْبَة التَّامَّة؛ إذ النِّسْبَة الناقصة ليست نسبة واقعاً ولا يوجد فِي موردها سوى مفهوم إفرادي واحد، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الْمَفْهُوم الإفرادي الواحد لا يعقل التَّصديق به، ولا يمكن أن يكون له مدلول تصديقي، بل لَيْسَ قابلاً إلاَّ للتصور فقط، فالتصديق والمدلول التَّصديقيّ خاصّ بِالنِّسْبَةِ الواقعية الَّتي يكون لدينا فِي موردها مفهومان مع نسبة بينهما، فالمدلول التَّصديقيّ فرع النِّسْبَة التَّامَّة.

 وسواء لاحظنا النَّظريّة الأولى أو الثَّانية فِي المقام فإِنَّهُ على كل حال تكون الجملة الشَّرْطِيَّة الَّتي دخلت عليها أَدَاة الشَّرْطِ دالَّة على نسبة تامَّة؛ وذلك:

 أَمَّا بناءًا على النَّظريّة الأولى فَلأَنَّ تَمَامِيَّة النِّسْبَة إِنَّمَا تكون (حسب هذه النَّظريّة) بالمدلول التَّصديقيّ، وقد ثبت فِي الأمر الأوّل أن جُمْلَة الشَّرْطِ لها مدلول تصديقي، إذن فالنسبة فيها تامَّة.

 وأمّا بناءًا على النَّظريّة الثَّانية فَلأَنَّ وجود الْمَدْلُول التَّصديقيّ (حسب هذه النَّظريّة) إِنَّمَا هو فرع تَمَامِيَّة النِّسْبَة؛ فالجملة الَّتي لها مدلول تصديقي فلا محالة تكون النِّسْبَة فيها تامَّة، وقد ثبت فِي الأمر الأوّل أن جُمْلَة الشَّرْطِ لها مدلول تصديقي، إذن فالنسبة فيها تامَّة.

  وعليه، فإذا كانت النِّسْبَة فِي جُمْلَة الشَّرْطِ تامَّة حتّى بعد دخول الأداة عليها، فهذا يعني صحَّة الاحتمال الثَّانِي وبطلان الاحتمال الأوّل، بمعنى أن ما نشاهده من عدم صحَّة السُّكوت على جُمْلَة الشَّرْطِ بعد دخول الأداة عليها لَيْسَ بسبب كون النِّسْبَة فيها ناقصة (كما يفترضه الاحتمال الأوّل) بل بسبب نقصان معنى الأداة حيث أنَّها موضوعة لِلرَّبْطِ بين الْجُمْلَتَيْنِ، وهذا هو الرَّأْي الْمَشْهُور، وبهذا يبطل رأي المُحَقِّق الإِصْفِهَانِيّ رَحِمَهُ اللَهُ ويتضح أن الأداة ليست موضوعة لإفادة أن مدخولها واقع موقع الفرض والتقدير.

 هذا هو الدَّلِيل والوجه الفنّيّ الَّذي يمكن الاستدلال به على صحَّة الرَّأْي الْمَشْهُور وبطلان مبنى المُحَقِّق الإِصْفِهَانِيّ.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّه لا إِشْكَال فِي أَنَّهُ قولنا: «إن جاء زيد» جملة ناقصة لا يصحّ السُّكوت عليها، مَعَ أَنَّ قولنا: «جاء زيد» جملة تامَّة يصحّ السُّكوت عليها، فالنقص إِنَّمَا جاء من أَدَاة الشَّرْطِ، ولا يعقل أن يجيء النَّقص من ناحيتها إلاَّ بأحد وجهين:

الوجه الأوّل: أَنْ تَكُونَ الأداة قد بَدَّلَتْ النِّسْبَة التَّامَّة فِي قولنا: «جاء زيد» إلى النِّسْبَة الناقصة، فتصير جملة «إن جاء زيد» كقولنا: «مجيء زيد».

الوجه الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ نفس الأداة بما لها من خُصُوصِيَّة المعنى بحاجة إلى التتميم بالجزاء.

 والوجه الأوّل غير صحيح؛ لأَنَّ النِّسْبَة التَّامَّة والناقصة متباينان ذاتاً، فالنسبة الناقصة هي ما تُرجع الكلمتين إلى كلمة واحدة كما فِي «مجيء زيد»، وَالنِّسْبَة التَّامَّة لا ترجعهما إلى كلمة واحدة كما فِي «جاء زيد»، والجملة المشتملة على النِّسْبَة التَّامَّة تفيد مدلولاً تَصْدِيقِيّاً دائماً؛ بخلاف الجملة غير المشتملة على النِّسْبَة التَّامَّة، فإِنَّهُ يستحيل إفادتها لمدلول تصديقي كما فِي قولنا: «مجيء زيد»؛ فإِنَّهُ لا يفيد أن الْمُتِكَلِّم يخبر عن مجيء زيد، بخلاف قولنا: «جاء زيد».

 وعليه، فلو كانت أَدَاة الشَّرْطِ فِي قولنا: «إن جاء زيد» قد بَدَّلَتْ مفاد «جاء زيد» لم يكن قولنا: إن جاء زيد مفيداً لمدلول تصديقي، بينما المفروض على كلام المُحَقِّق الإِصْفِهَانِيّ رَحِمَهُ اللَهُ هو أن أَدَاة الشَّرْطِ تفيد الفرض والتقدير، فهذا الكلام لا محالة يفيد مدلولاً تَصْدِيقِيّاً؛ فإِنَّهُ يكشف عن فرض مجيء زيد وتقديره فِي نفس الْمُتِكَلِّم، نظير ما إذا قال: «أقدّر مجيء زيد»، فلو كان قد انقلب قولنا «جاء زيد» بعد دخول الأداة عليه إلى جملة ناقصة، أي: إلى قولنا «مجيء زيد»، لكان قولنا «إن جاء زيد» نظير قولنا «مجيء زيد المقدَّر» غير دالّ على تحقّق الغرض والتقدير فِي نفس الْمُتِكَلِّم.

 وبالجملة لَيْسَ للمحقق الإِصْفِهَانِيّ أن يقول: إن جملة «جاء زيد» انقلبت (بدخول الأداة عليها) إلى جملة ناقصة؛ لأَنَّ مفروضه رَحِمَهُ اللَهُ هُوَ أَنَّ الأَدَاةَ تَدُلّ على فرض مدخولها وتقديره مِن قِبَلِ الْمُتِكَلِّم، وهذا يعني أن الدِّلاَلَة التصديقية ثابتة، فَيَكُونُ الفرض والتقدير الَّذي جيء به فِي هذه الجملة نظير الاِسْتِفْهَام وَالنَّفْي وغيرهما، فكما أَنَّهُ إذا لُوّنت هذه الجملة بلون الاِسْتِفْهَام كما إذا قيل: «هل جاء زيد؟» لم تخرج عن كونها تامَّة، وكذلك إذا لوّنت بالنفي كما إذا قيل: «ما جاء زيد»، فكذلك الحال إذا لُوّنت بلون الفرض والتقدير، فإذا بطل الوجه الأوّل تعيّن الوجه الثَّانِي وهو أَنْ تَكُونَ نفس الأداة بما لها من خُصُوصِيَّة المعنى بحاجة إلى تتميمٍ بالجزاء، وتلك الْخُصُوصِيَّة هي دلالتها عَلَى الرَّبْطِ، فيثبت المطلوب.

 هذا تمام الكلام فِي الجهة الأولى (وهي عبارة عن البحث عن دلالة الْقَضِيَّة الشَّرْطِيَّة على أصل ربط الْجَزَاء بِالشَّرْطِ) وقد عرفت أن الصَّحِيح هُوَ أَنَّ الأَدَاةَ موضوعة لهذا الرَّبْط؛ وذلك لما عرفته من الدَّلِيل، مضافاً إلى شهادة الوجدان بذلك كما تقدّم.