الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

31/02/04

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِيَّة الاكتشافية/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

إلاَّ أن المُحَقِّق الإصفهاني خالفهم فِي ذلك قائلاً: إن أداة الشرط ليست موضوعة لِلرَّبْطِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، بل هي موضوعة لإفادة أن مدخولها مفروض ومقدر، فمفادها هو جعل المدخول مقدرّاً وأمّا الرَّبْط وَالتَّرَتُّب بين المدخول المفروض والمقدر وبين الْجَزَاء، فالدال عليه عبارة عن هيئة ترتيب الْجَزَاء عَلَىٰ الشَّرْطِ وتفريع التالي على المقدَّم، كما تفيد «الفاء» فِي الْجَزَاءِ؛ فَإِنَّ الفاء أيضاً للترتيب، وليس لأداة الشرط دخل فِي ذلك، فَالشَّرْطُ فِي المثال المذكور لَيْسَ عبارة عن المجيء الخارجيّ، بل هو المجيء المقدر المفروض، وهيئة الترتيب دلت على ربط الْجَزَاء به وثبوت وُجُوب الإِكْرَامِ فِي فرض تحقّق المجيء.

توضيحه: أَنَّنَا إذا لاحظنا جملة «جاء زيد»، فهذه الجملة تارةً تقع موقع الإخبار والحكاية، وذلك حينما يقول: «جاء زيد» ومعناه «أُخبِر بمجيء زيد»، وأخرى تقع موقع الاستفهام، وذلك حينما يقال: «هل جاء زيد» ومعناه: «أستفهم عن مجيء زيد»، وثالثة تقع موقع التمنّيّ، وذلك حينما يقال: «ليت زَيْداً جاء»، ورابعة تقع موقع الترجيّ، وذلك حينما يقال: «لعلّ زيداً جاء»، ومعناه: أرجو مجيء زيد، وخامسة تقع موقع الفرض والتقدير، وذلك حينما يقال: «إن جاء زيد فأكرمه»؛ فَإِنَّ قوله: «إن جاء زيد» فِي هذه الجملة معناه: «أَفرُض وأُقَدِّرُ مجيء زيد»، فَكَمَا أَنَّ أداة الاستفهام وضعت للدِّلالة على الاستفهام عن مدخولها، وأداة التمني والترجي وُضعتا للدِّلالة على تمني المدخول وترجّيه، كذلك أداة الشرط وضعت للدِّلالة على فرض المدخول وتقديره، وأمّا قولنا: «فأكرمه» فِي المثال فهو الدَّالّ عَلَى الرَّبْطِ بين الْجَزَاء والمجيء المفروض والمقدَّر وترتُّب الأوّل على الثَّانِي.

 فالمراد من وقوع المدخول موقع الفرض والتقدير نظير ما اشتهر فِي علم المنطق فِي الْقَضِيَّة الحقيقيَّة من أن موضوعها ينطبق على الأفراد المحقَّقة والمقدَّرة، فإذا قيل: «كل إنسان ضاحك» لا يختصّ الْمَوْضُوع بما صدق عليه الإنسان محققاً فِي أحد الأزمنة، لعدم اختصاص المحمول به، بل يعمّ كل ما لو وجد كان إنساناً، فكل ما فرضه وقدَّره العقل مصداقاً لطبيعي الإنسان يراه مصداقاً لعنوان الضاحك.

 وهذا بخلاف الْقَضِيَّة الخارجية الَّتي يكون الحكم فيها بالمحمول على الْمَوْضُوع المحقَّق فِي زمان خاصّ (كقولنا: «كل مَن كان فِي المعسكر قُتل») أو المُحَقَّق فِي أحد الأزمنة الثَّلاثة أو كُلّهَا (كقولنا: «الإنسان الموجود حيوان ناطق»).

 فالقضية الحقيقيَّة هي الَّتي حكم فيها بالمحمول على الْمَوْضُوع سواء تحقّق فِي أحد الأزمنة أم لا، بأن لا يلحظ الْمَوْضُوع بِعُنْوَانِهِ الإشارة إلى ما فِي الخارج، بل يقدر محقَّقاً ويحكم عليه وإن لم يكن محقَّقاً كقولنا: «كل إنسان حيوان ناطق»، فإِنَّهُ لَيْسَ معناه أن خصوص الأفراد الْمُحَقَّقَة فِي الخارج فِي أحد الأزمنة الثَّلاثة حيوان ناطق، بل معناه أَنَّهُ كُلَّمَا فُرض إنسان فهو حيوان ناطق، ونحوه قولنا: «النار حارّة»؛ فَإِنَّ معناه أَنَّهُ كُلَّمَا فرضت نار فهي حارة، لا بمعنى أن الفرض والتقدير هو الْمَوْضُوع، بحيث يكون المفروض بما هو مفروض هو الْمَوْضُوع، كي يستلزم حصول الحيوان الناطق أو الحرارة بمجرّد تصوير الإنسان أو النار وفرضه وتقديره، بل بمعنى فرض الْمَوْضُوع وتقديره، بحيث يكون الفرض هو فرض الْمَوْضُوع، ويكون الْمَوْضُوع الحقيقي عبارة عن كل ما هو إنسان أو نار بالحمل الشائع؛ فَإِنَّ ما هو إنسان أو نار بالحمل الشائع قد يكون محقَّقاً، وَقَدْ يَكُونُ مقدَّراً ومفروضاً.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ أداة الشرط فِي الْقَضِيَّة الشَّرْطِيَّة تفيد كون مدخولها مَفْرُوضاً وَّمُقَدَّراً (كالموضوع فِي الْقَضِيَّة الحملية الحقيقيَّة) فَيَكُونُ الشرط أعمّ من الموجود فِي أحد الأزمنة الثَّلاثة. ثم لما رُتّب الْجَزَاء على هذا الشرط، فمن نفس هذا الترتيب يستفاد الرَّبْط وَالتَّعْلِيق.

 ولم يُقم رَحِمَهُ اللَهُ دَلِيلاً على مُدَّعَاه، وإنَّما استشهد عليه بأمور ثلاثة:

أحدها:شهادة الوجدان بذلك.

ثانيها: كون هذا هو المنسوب إلى علماء الْعَرَبِيَّة.

ثالثها: أن أداة الشرط فِي اللُّغَة الْفَارِسِيَّة معناها ذلك، فبملاحظة مرادفها فِي الْفَارِسِيَّة يكون لدينا شاهد آخر على أنَّها فِي اللُّغَة الْعَرَبِيَّة أيضاً كذلك؛ لأَنَّ من المستبعد جِدّاً الفرق فِي أداة الشرط بين اللُّغَات([1] ).

أقول: ما ذكره رَحِمَهُ اللَهُ من الشواهد لا يمكن قبوله وذلك:

أما الوجدان فشهادته على كلامه رَحِمَهُ اللَهُ ممنوعة، بل الوجدان شاهد على خلافه، كما يضح ذلك إن شاء الله تعالى من خلال البحث.

وأمّا شهادة علماء الْعَرَبِيَّة بذلك، فَحَتَّى إذا صحّت نسبة ذلك إليهم، فَإِنَّهَا ليست حجّةً.

وأمّا كون مفاد أداة الشرط فِي اللُّغَة الْفَارِسِيَّة ذلك، فهو أيضاً ممنوع؛ فَإِنَّ معناها فِي هذه اللُّغَة أيضاً هو نفس ما ذكر فِي الرَّأْي الْمَشْهُور.

 وبغض النَّظَر عن هذه الشواهد لم يستدلّ المُحَقِّق الإصفهاني رَحِمَهُ اللَهُ على كلامه بدليل، كما أن الرَّأْي الْمَشْهُور أيضاً لم يُستدلّ عليه بدليل.

إلاَّ أن سَيِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِيد رَحِمَهُ اللَهُ تبرَّع بذكر دليل على كلٍّ من الرأيين، فذكر صورة دليل وبرهان على مدعى المُحَقِّق الإصفهاني رَحِمَهُ اللَهُ وناقشه، وذكر أيضاً دَلِيلاً على الرَّأْي الْمَشْهُور وتبنّاه، والصحيح عندنا هو ما أفاده رَحِمَهُ اللَهُ.

 فأمَّا الدَّلِيل الَّذي يمكن الاستدلال به على كلام المُحَقِّق الإصفهاني رَحِمَهُ اللَهُ فهو:

 أن الْجَزَاء إذا كان مستفهما عنه، فعلى مبنى المُحَقِّق الإصفهاني رَحِمَهُ اللَهُ لا يوجد إِشْكَال، ويكون الاستفهام مُرْتَبِطاً بالتقدير والفرض الَّذي أفادته أداة الشرط.

[1] - راجع كلماته رَحِمَهُ اللَهُ فِي نهاية الدراية: ج2، ص52-54 و412-413.