الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

31/01/17

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِيَّة الاكتشافية/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 قلنا بالأَمْسِ إن الْمَشْهُور فِي ضَابِط الْمَفْهُوم هو أن يكون هذا الرَّبْط الخاصّ (القائم بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ مثلاً فِي الْقَضِيَّة الشَّرْطِيَّة) رَبْطاً عِلِّيّاً اِنْحِصَارِيّاً (أي: أَنْ يَكُونَ هذا الشرط عِلَّةً مُّنْحَصِرَةً لِلْجَزَاءِ).

إلاَّ أن التَّحْقِيق هو أن الْمَفْهُوم لا يتوقَّف على الْعِلِّيَّة الاِنْحِصَارِيَّة، فكون الْقَضِيَّة الشَّرْطِيَّة مثلاً ذات مفهوم غير متوقّف على ثبوت كَوْن الشَّرْط علّة منحصرة لِلْجَزَاءِ، بل الَّذي يوجب إفادة الكلام لِلْمَفْهُومِ هو أن يَدُلّ على ربطٍ بين الحكم وطرفه مفاده عبارة عن أن ثبوت الحكم منحصر فِي فرض ثبوت طرفه، فكون الْقَضِيَّة الشَّرْطِيَّة مثلاً ذات مفهوم متوقّف على دلالتها على هذا الرَّبْط بين الْجَزَاء والشرط، وهو أن ثبوت الْجَزَاء منحصر فِي فرض ثبوت الشرط، وليس متوقّفاً على دلالتها على أَنَّ الشَّرْطَ علّة منحصرة لِلْجَزَاءِ، فالقائل بثبوت الْمَفْهُوم للقضية الشَّرْطِيَّة مثلاً لا يجب عليه أن يلتزم بتحقّق تلك الشُّرُوط الثَّلاثة الَّتي أفادها المُحَقِّق النائيني رَحِمَهُ اللَهُ غير صحيح إلاَّ مع فرض تَمَامِيَّة إحدى دعويين:

الدَّعْوَىٰ الأولى هي أن يقال: إن مجرّد انحصار ثبوت الْجَزَاء فِي فرض ثبوت الشرط لا يوجب انْتِفَاء الْجَزَاء عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ.

 وهذه الدَّعْوَىٰ كما تَرَىٰ واضحة البطلان؛ فإِنَّهُ إذا ثبت فِي جملة من الجمل أن تلك الجملة تَدُلّ على أن ثبوت الْجَزَاء منحصر بفرض ثُبُوت الشَّرْطِ، فلازمه العَقْلِيّ هو انْتِفَاء الْجَزَاء عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ.

الدَّعْوَىٰ الثَّانية هي أن يقال: إن انحصار ثبوت الْجَزَاء فِي فرض ثبوت الشرط يكون فِي عالم الثُّبوت منحصراً فِي فرض كَوْن الشَّرْط علّة منحصرة لِلْجَزَاءِ (أي: علينا أن نلتزم بما يقول به الْمَشْهُور).

 ويرد على هذه الدَّعْوَىٰ أن انحصار ثبوت الْجَزَاء فِي فرض ثبوت الشرط ليس منحصراً فِي عالم الثُّبوت فِي فرض كَوْن الشَّرْط علّة منحصرة لِلْجَزَاءِ، لكن هناك حالات أخرى بِالرَّغْمِ من أَنَّ الشَّرْطَ فيها لَيْسَ علّةً تامَّةً منحصرة لِلْجَزَاءِ، مع ذلك ثبوت الْجَزَاء منحصر بثبوت الشرط، وحينئِذٍ يثبت الْمَفْهُوم رغم أَنَّ الشَّرْطَ غير منحصر (أي: خلافاً للمقياس الذي ذكره الْمَشْهُور) وإليك تلك الحالات الخمس أو الملاكات الخمسة:

الحالة الأولى: ما إذا فرضنا أَنَّ الشَّرْطَ علّة غير منحصرة لِلْجَزَاءِ وأن هناك علّةً أخرى لِلْجَزَاءِ غَيْر الشَّرْطِ، إلاَّ أن تلك العلّةَ الأخرى لا توجد فِي الخارج، فَيَنْحَصِرُ ثبوت الْجَزَاء فِي فرض ثبوت الشرط من دون أن يَكُون الشَّرْطُ علّةً منحصرة لِلْجَزَاءِ، وحينئِذٍ فالمفهوم ثابت، وينتفي الْجَزَاء عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ رغم عدم توفر الشرط الرَّابع من تلك الشُّرُوط وعدم كَوْن الشَّرْط علّة منحصرة لِلْجَزَاءِ.

اللهم إلاَّ أن يكون مرادهم مِنَ الشَّرْطِ الرَّابع (وهو الانحصار) ما يعمّ الانحصار بهذا المعنى (أي: الانحصار فِي الخارج)، لٰكِنَّهُ خلاف ظاهر كلماتهم.

الحالة الثَّانية: ما إذا فرضنا كَوْن الشَّرْط جزءاً لعلّةِ الْجَزَاء، لٰكِنَّهُ جزء لا بدل له (أي: هو جزء منحصر لا بُدَّ من فرضه فِي كُلّ علّة ارتبطت بالجزاء)، فهو جزء لكل ما هو علّة الْجَزَاء، فَيَنْحَصِرُ ثبوت الْجَزَاء فِي فرض ثبوت الشرط من دون أن يَكُون الشَّرْطُ علّة تامَّة لِلْجَزَاءِ، وحينئِذٍ فالمفهوم ثابت وينتفي الْجَزَاء عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ (أي: ثبوت الْجَزَاء منحصر بفرض ثُبُوت الشَّرْطِ) رغم أَنَّ الشَّرْطَ لَيْسَ علّة تامَّة منحصرة لِلْجَزَاءِ. فليس ما قلناه راجعاً إلى ما قالوه، فيَتمّ ما قلناه ولا يَتُِمّ ما قالوه.

الحالة الثَّالثة: ما إذا فرضنا كَوْن الشَّرْط والجزاء معاً معلولين لعلة واحدة مشتركة، فَيَنْحَصِرُ ثبوت الْجَزَاء فِي فرض ثبوت الشرط من دون أن يكون الْجَزَاء مُتَرَتِّباً عَلَىٰ الشَّرْطِ، بل هما فِي عَرض واحد حسب الفرض، وحينئِذٍ فالمفهوم ثابت وينتفي الْجَزَاء عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ؛ إِذْ أَنَّ انْتِفَاءَ الشرط مساوق لانتفاء علته الَّتي هي علّة الْجَزَاء أيضاً حسب الفرض، فبالرغم من عدم تَمَامِيَّة الضّابط الَّذي ذكروه من وجوب التَّرَتُّب بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ (فضلاً عن كَوْن الشَّرْط علّة تامَّةً منحصرة لِلْجَزَاءِ) يثبت الْمَفْهُوم.

الحالة الرَّابعة: ما إذا فرضنا انْتِفَاء جميع الشُّرُوط الأربعة (أي: اللُّزُوم وَالتَّرَتُّب والعلّيّة والانحصار)، وذلك بأن يفرض انحصار ثبوت الْجَزَاء فِي فرض ثبوت الشرط من باب الاتفاق، بِأَنْ يَّكُونَ من الاتّفاقيّات أن الْجَزَاء مهما كان موجوداً فَالشَّرْطُ أيضاً موجود، فلو فرضنا أن نزول المطر منحصر بمجيء زيد، أو إن فرضنا أن مجيء زيد مثلاً منحصر (صُدْفَةً وَّاتِّفَاقاً) فِي فرض مجيء عمرو، فَسَوْفَ يَنْتَفِي مجيئه عند انْتِفَاء مجيء عمرو، فرغم انْتِفَاء جميع الشُّرُوط بما فيها اللُّزُوم وعدم وجود أيّ لزوم بين الشرط (وهو مجيء عمرو) والجزاء (وهو مجيء زيد) مع ذلك يثبت الْمَفْهُوم.

فإن قيل: هل يمكن انحصار ثبوت شيء فِي فرض ثبوت شيء آخر من دون أن يكون هناك لزوم بين الشيئين أصلاً؟

قلنا: نعم هو ممكن، كما فِي أعمال الإنسان الاختيارية؛ فَإِنَّ الفعل الاختياري منحصر بفرض ثبوت الحُبّ والإرادة لدى الإنسان تجاه ذاك الفعل، لٰكِنَّهُ مع ذلك لا لزوم بين الإرادة وبين صدور الفعل، بل حتّى بعد تحقّق الإرادة التَّامَّة لدى الإنسان تجاه ذاك الفعل تبقى للإنسان حالة السَّلْطَنَة على ذاك الفعل من دون أي لزوم وضرورة فِي الْبَيِّن، فليس عليه أن يفعل، بل له أن يفعل وله أن لا يفعل.

 إذن، فانحصار ثبوت الْجَزَاء فِي فرض ثُبُوت الشَّرْطِ ليس مَحْصُوراً ثبوتاً بفرض كَوْن الشَّرْط علّة تامَّةً منحصرة لِلْجَزَاءِ، بل إن كَوْن الشَّرْط علّة تامَّةً منحصرة لِلْجَزَاءِ هو أحد تلك الحالات الخمس أو الملاكات الخمس لانحصار ثبوت الْجَزَاء بفرض ثُبُوت الشَّرْطِ كما قلنا.

 وعليه، فالدَّعْوَىٰ الثَّانية أيضاً غير تامَّة. هذا تمام الكلام فِي الرَّأْي الْمَشْهُور، وبعد ذلك ننتقل - إن شاء الله تعالى - إلى رأي المُحَقِّق الْعِرَاقِيّ الَّذي ذكرناه بالأَمْسِ.