الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

30/11/13

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِيَّة الاكتشافية/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 والوجه فِي ما أفاده رَحِمَهُ اللَهُ من العدول عن التَّعْبِير المشهور إلى ما ذكره هو أَنَّ الْمَوْضُوعَ فِي مفهوم المخالفة عين الموضوع فِي المنطوق. فمثلاً موضوع كل من المنطوق والمفهوم فِي قولنا: «إن جاء زيد فأكرمه» هو «زيد» المذكور فِي المنطوق. بل لعلّ نظره رَحِمَهُ اللَهُ إلى الاستشكال فِي ذلك فِي مفهوم الموافقة أيضاً، حيث أَنَّهُ وإن كان ربما يختلف موضوع مفهوم الموافقة عن موضوع المنطوق، كما فِي قولنا: «أكرم خدّام العلماء» الَّذي يقتضي بمفهومه الموافق وبالفحوى وَالأَوْلَوِيَّة وجوب إكرام العلماء أنفسهم؛ فَإِنَّ موضوع «المنطوق» عبارة عن «خدام العلماء»، بينما موضوع «المفهوم» عبارة عن «العلماء».

 فموضوع مفهوم الموافقة هنا غير مذكور فِي المنطوق، إلاَّ أَنَّهُ قد يكون موضوعهما أَحْيَاناً شيئاً واحداً، كما فِي قوله تعالى: ﴿ ولا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما([1] ) الَّذي يقتضي بمفهومه الموافق حرمة ضرب الوالدين؛ فَإِنَّ الموضوع فِي المنطوق والمفهوم معاً عبارة عن «الوالدين»، فموضوع مفهوم الموافقة هنا مذكور فِي المنطوق.

 اللهم إلاَّ أن يُسمّى نفس الْمُتَعَلَّق موضوعاً، فينعكس الأمر، حيث يتّحد موضوع المنطوق وَمَوْضُوع المفهوم فِي قولنا: «أكرم خدّام العلماء» بِاعْتِبَارِ أن ذات الْْمُتعَلّق فيهما واحد وهو الإكرام، بينما يتعدّد فِي الآية الشريفة ويختلف موضوع المنطوق عن موضوع المفهوم، باعتبار أن ذات الْمُتَعَلَّق فِي منطوقها عبارة عن قول ﴿أفٍّ﴾، بينهما هو فِي مفهومها عبارة عن «الضَّرب».

 وعلى كل حال فهل أن الرَّأْي المشهور هو الصَّحِيح؟ أم أن ما أفاده المُحَقِّق الخُراسانيّ رَحِمَهُ اللَهُ هو الصَّحِيح؟

تحقيق الكلام فِي المقام هو أن يقال:

 أما الرَّأْي المشهور القائل بأن موضوع المفهوم غير مذكور فِي المنطوق:

 فإن أريد به الموضوع فِي عالم الإثبات وفي مرحلة الإسناد والكلام، فهو غير صحيح؛ لأَنَّ الموضوع فِي المنطوق بحسب عالم الإثبات والإسناد هو موضوع المفهوم دائماً.

 وإن أريد به الموضوع فِي عالم الثُّبوت، فهو إِنَّمَا يَتُِمّ بناءًا على ما اختاره المُحَقِّق النائيني رَحِمَهُ اللَهُ ومدرسته من أن الشَّرْط يرجع دائماً إلى الموضوع ويُعتبر من مقوّماته؛ إذ بناءًا على ذلك يصبح من الواضح حينئذٍ أَنَّ الْمَوْضُوعَ فِي منطوق قولنا: «إن جاءك زيد فأكرمه» هو «زيد الجائي»، والموضوع فِي مفهومه هو «زيد غير الجائي»، وهو غير مذكور فِي اللَّفظ.

 وينبغي أن يكون المقصود من عدم كونه مذكوراً فِي المنطوق أَنْ لاَّ يَكُونَ مذكوراً فيه بما هو موضوع، بِأَنْ لاَّ يَكُونَ موضوع المفهوم نفس موضوع المنطوق، كي لا يرد النقض بمثل قوله تعالى: ﴿ثم أتمّوا الصيام إلى الليل﴾([2] ) المقتضي بمفهومه انْتِفَاء هذا الحكم عن الليل بناءًا على خروج الغاية عن المغيَّىٰ؛ فَإِنَّ موضوع المفهوم (وهو الليل) وإن كان مذكوراً فِي المنطوق، لكن لا بعنوان كونه موضوعاً للحكم، بل بعنوان كونه حَدّاً له.

 وأمّا بناءًا على مبنى المُحَقِّق الْعِرَاقِيّ رَحِمَهُ اللَهُ (وهو الصَّحِيح) القائل بأن الشروط لا ترجع دائماً إلى الموضوع، بل بعضها مقوم للموضوع، وبعضها شرط لترتَّب الحكم على الموضوع، فالرأي المشهور غير تامّ؛ لإمكان أن يقال: إن الموضوع فِي المنطوق وفي المفهوم فِي قولنا مثلاً: «إن جاءك زيد فأكرمه» هو «زيد»، ويكون مجيئه شرطاً لترتُّب وجوب الإكرام على هذا الموضوع، وعدم مجيئه شرطاً لترتَّب عدم وجوب الإكرام عليه.

 وأمّا ما أفاده المُحَقِّق الخُراسانيّ رَحِمَهُ اللَهُ من أَنَّ الْمَفْهُومَ هو حكم غير مذكور فِي المنطوق:

 فإن أراد بذلك عدم كون المفهوم حكماً مذكوراً بشخصه فِي المنطوق، فهو صحيح فِي مفهوم الموافقة والمخالفة معاً كما لا يخفى، وإن أراد بذلك عدم كونه حكماً مذكوراً بسنخه ونوعه فِي المنطوق، فهو صحيح فِي مفهوم المخالفة، فإن نوع الحكم فِي المفهوم يختلف عن نوعه فِي المنطوق، ولا يعقل أن يكونا من نوح واحد كالوجوب مثلاً؛ فَإِنَّ المفروض هو أن مفهوم وجوب شيء بشرط شيء مثلاً عبارة عن انْتِفَاء الوجوب عند انْتِفَاء الشَّرْط، ولٰكِنَّهُ غير صحيح فِي مفهوم الموافقة؛ فَإِنَّ الحكم فِي منطوق قوله تعالى: ﴿ ولا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما([3] ) وهو حرمة قول ﴿أفٍّ﴾ للوالدين، والحكم فِي مفهومه وهو حرمة ضربهما، من نوع واحد.

 هذا إن اعتبرنا النوعية من حيث ذات الحكم بما هو وبقطع النَّظَر عن متعلّقه وموضوعه، وأمّا نوعية الحكم حتّى بِالنَّظَرِ إلى متعلّقه، فأيضاً قد يتفق فِي مفهوم الموافقة أن يتّحد الحكم وَالْمُتَعَلَّق فِي المفهوم مع الحكم وَالْمُتَعَلَّق فِي المنطوق من حيث النوع وَالسِّنْخ، كما فِي قولنا: «أكرم خُدَّام العلماء»؛ فَإِنَّ مفهومه الموافق هو وجوب إكرام العلماء، وهو من سنخ الحكم المذكور فِي المنطوق حتّى بلحاظ متعلّقه.

 بل قد يتفق اتّحاد الحكم فِي المنطوق مع الحكم فِي المفهوم الموافق سِنْخاً وَنَوْعاً حتّى بلحاظ الموضوع أيضاً، وإنَّما يكون الاختلاف بين الحكم المنطوق والحكم المفهوم فِي الشَّرْط فقط، كما إذا قال: «أَكْرِم زيداً إن جاهد مع الفقيه العادل» الدَّالّ بمفهومه الموافق على وجوب إكرام زيدٍ إن جاهد مع الإمام المعصوم عليه الصَّلاة والسلام؛ فَإِنَّ نوع الحكم وسنخه فِي المنطوق وفي المفهوم واحد ذاتاً وَمُتَعَلَّقاً وموضوعاً، وإنَّما يختلف شرط الحكم فِي المنطوق عنه فِي المفهوم.

 هذا إجمال الكلام فِي هذا المقام، وإن أردت تحقيقه على وجه التفصيل قلنا إِنَّه:

تارةً: يقع البحث فِي مفهوم الموافقة وإن كان خارجاً عن محلّ الكلام كما تقدّم.

وأخرى: يقع البحث فِي مفهوم الموافقة:

 فأمَّا مفهوم الموافقة:

فتارةً: نتكلّم عن أن الحكم الْمَفْهُومِيّ هل هو مذكور (شَخْصاً أو نَوْعاً) فِي المنطوق أم هو غير مذكور أصلاً فيه؟

وأخرى: نتكلّم عن أنّ موضوع الحكم الْمَفْهُومِيّ هل هو مذكور فِي المنطوق أم لا؟

 فأمَّا الحكم فِي مفهوم الموافقة فهو غير مذكور (بشخصه) فِي المنطوق؛ لوضوح أَنَّهُ لو كان كذلك لأصبح منطوقا لا مفهوماً، وأمّا سنخه ونوعه فهل هو مذكور فِي منطوق الجملة الدَّالَّة على مفهوم الموافقة أم لا؟

التَّحْقِيق هو التَّفصيل؛ لأَنَّ مفهوم الموافقة يمكن تَقْسِيمه إلى عدّة أقسام، ففي بعضها يكون سنخ الحكم مذكوراً فِي المنطوق وفي بعضها لا يكون كذلك.

وبيانه: أنَّ مفهوم الموافقة مدركه ونكتته عبارة عن أن العرف يفهم من الكلام أن الْمُتِكَلِّم إِنَّمَا نَبَّهَ على قسم خاصّ، نظراً إلى أَنَّهُ أخفى الأفراد من حيث الحكم، أو نظراً إلى أَنَّهُ محلّ الابتلاء مثلاً، لا من أجل كونه هو بالخصوص محط نظره. وذلك القسم الخاصّ:

تارةً يكون عبارة عن نفس الحكم، كما إذا قال: «لا يستحبّ إكرام الفسّاق»، حيث يَدُلّ بمفهومه الموافق على عدم وجوب إكرامهم، نظراً إلى أن العرف يفهم من الكلام أن التَّنبيه على هذا الحكم وهو الاستحباب بالخصوص ونفيه عن إكرام الفسّاق، ليس من أجل وجود خُصُوصِيَّة فِي عدم الاستحباب فِي نظر الْمُتِكَلِّم غير موجودة فِي عدم الوجوب، وإنَّما هو من أجل أن عدم الاستحباب أخفى مثلاً من عدم الوجوب، فلذا يَدُلّ الكلام عرفاً بالفحوى وَالأَوْلَوِيَّة على عدم وجوب إكرامهم.

وأخرى يكون عبارة عن مُتَعَلَّق الحكم، كقوله تعالى: ﴿ ولا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما([4] ) حيث يَدُلّ بمفهومه الموافق على حرمة ضرب الوالدين، نظراً إلى أن العرف يفهم منه أن التَّنبيه على هذا الْمُتَعَلَّق وهو قول ﴿أفٍّ﴾ للوالدين ليس لِخُصُوصِيَّة فيه غير موجودة فِي الضَّرب، بل لكونه أخفى من الضَّرب من حيث الحكم، أو لكونه أكثر ابتلاءً به، فلذا يَدُلّ الكلام عرفاً بالفحوى وَالأَوْلَوِيَّة على حرمة الضَّرب.

[1] - سورة الإسراء (17): الآية 23.

[2] - سورة البقرة (2): الآية 187.

[3] - سورة الإسراء (17): الآية 23.

[4] - سورة الإسراء (17): الآية 23.