الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

30/11/12

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِيَّة الاكتشافية/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 وبما ذكرناه من البيان لِلتَّعْرِيفِ الصَّحِيح والمختار للمفهوم فِي المقام يَتَّضِح الإشكال فِي ما أفاده السَّيِّد الهاشميّ حفظه الله من الملاحظات، حيث أورد على التَّعْرِيف المذكور:

أوَّلاً: بأَنَّهُ لا يشمل مفهوم الموافقة لو أريد به تعريف الأعمّ منه ومن مفهوم المخالفة.

وثانياً: بأَنَّهُ لا يشمل مثل مفهوم العدد الَّذي هو مدلول اِلْتِزَامِيّ لنفس العدد الَّذي هو مفهوم اسمي لا للربط.

وثالثاً: بأَنَّهُ يشمل دلالات ليست من المفهوم، كدلالة قولنا: «مَن كان عَالِماً وجب إكرامه» على أنّ مَن لا يجب إكرامه ليس بعالم، مع أَنَّهُ ليس بمفهوم اِصْطِلاَحاً.

 وفي ضوء هذه الملاحظات مال فِي تعريف المفهوم إلى القول بأَنَّهُ عبارة عمَّا يكون لاَزِماً لِخُصُوصِيَّةٍ أخذت فِي الْقَضِيَّة زائداً على أصل النِّسْبَة الحكمية، سواء كانت خُصُوصِيَّة للموضوع والمحمول (كما فِي مفهوم الموافقة) أو خُصُوصِيَّة فِي ثبوت المحمول للموضوع كما فِي مفهوم الشَّرْط والوصف([1] ).

أقول: أما الملاحظة الأولى فقد عرفت عدم صحّتها، لما قلناه من أن التَّعْرِيف الَّذي ينبغي أن يُذكر للمفهوم فِي هذه السِّلْسِلَة من البحوث الأصولية المعروفة بـ«الْمَفَاهِيم» هو التَّعْرِيف الَّذي لا يشمل مفهوم الموافقة؛ إذ المقصود من المفهوم الَّذي يُبحث عنه فِي هذه البحوث هو مفهوم المخالفة فقط، ولذا نراهم يبحثون فيها عنه خاصّة لا عن مفهوم الموافقة؛ فَإِنَّ مفهوم الموافقة ليس محلاًّ للإشكال والبحث إلاَّ ببعض مراتبه وهو قياس الأَوْلَوِيَّة الَّذي ليس محلّ بحثه هنا أساساً، فالاعتراض على التَّعْرِيف الَّذي أفاده سَيِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِيد رَحِمَهُ اللَهُ بعدم شموله لمفهوم الموافقة غير وارد.

وأمّا الملاحظة الثَّانية: فهي أيضاً غير واردة لشمول التَّعْرِيف لمفهوم العدد؛ لأَنَّ مفهوم العدد مدلول اِلْتِزَامِيّ لربط الحكم بالعدد، وليس مدلولاً اِلْتِزَامِيّاً لنفس العدد، ولذا فحتى لو تَغَيَّرَ العدد إلى عدد آخر رُبط الحكم به، تبقى الملازمة ويبقى مفهوم العدد على حاله وهو انْتِفَاء الحكم عند انْتِفَاء ذاك العدد، كما أَنَّهُ إذا تَغَيَّرَ الحكم أيضاً إلى حكم آخر ربط بالعدد، تبقى الملازمة على حالها ويبقى مفهوم العدد معبِّرا عن انْتِفَاء ذاك الحكم عند انْتِفَاء العدد، وهكذا لو تَغَيَّرَ العدد والحكم معاً، فمفهوم العدد كمفهوم الشَّرْط وغيره من هذه النَّاحية، فهو لازم لربط الحكم بالعدد، وليس لاَزِماً للحكم بخصوصه ولا للعدد بخصوصه، فلم نفهم ماذا يقصد السَّيِّد الهاشميّ حفظه الله بقوله: «إن مفهوم العدد مدلول اِلْتِزَامِيّ لنفس العدد الَّذي هو مفهوم اسمي لا للربط؟

 فإن قصد به أَنَّهُ لازم لنفس العدد الخاصّ المذكور فِي المنطوق وَالَّذِي رُبط الحكم به، فقد عرفت أَنَّهُ ليس كذلك، بدليل ثبوت هذا اللاَّزِم حتّى مع تغيير ذاك العدد الخاصّ إلى عدد آخر.

 وإن قصد به أَنَّهُ لازم للعدد بمعناه العامّ الشامل لكل الأعداد، فهو غير تامّ؛ لأَنَّ الحكم الْمَنْطُوقِيّ لم يُربط بمفهوم العدد العامّ، بل رُبط بمفهوم العدد الخاصّ كما هو واضح.

وأمّا الملاحظة الثَّالثة: فهي أيضاً مِمَّا لا يمكن المساعدة عليه؛ إذ لا دلالة أصلاً لمثل قولنا: «مَن كان عَالِماً وجب إكرامه» على أنّ مَن لا يجب إكرامه ليس بعالم، بل غاية ما يَدُلّ عليه (بناءًا على القول بمفهوم الشَّرْط أو الوصف) هو أن مَن لم يكن عَالِماً فلا يجب إكرامه من باب مفهوم الشَّرْط (إذا كانت الجملة شرْطِيَّة) أو من باب مفهوم الوصف (إذا كانت الجملة وصفية) أما أن كل مَن لا يجب إكرامه فليس بعالم، فهذا مِمَّا لا تَدُلّ عليه الجملة أصلاً.

 إذن، فالملاحظات المذكورة غير واردة.

وأمّا التَّعْرِيف الَّذي مال إليه وقال عنه إِنَّه لعلّه الأوفق، فيرد عليه:

أوَّلاً: أَنَّهُ شامل لمفهوم الموافق الَّذي هو خارج عن محلّ البحث كما قلنا. فَلِكَيْ لا يشمله لا بُدَّ من أن يقول: إن المفهوم هو لازم خُصُوصِيَّة فِي ثبوت المحمول للموضوع.

وثانياً: أَنَّنَا لا نتعقل معنى لكون اللاَّزِم لاَزِماً لِخُصُوصِيَّة فِي ثبوت المحمول للموضوع سوى كونه لاَزِماً لِخُصُوصِيَّة فِي ربط المحمول بالموضوع؛ فَإِنَّ ثبوت المحمول للموضوع ليس شيئاً آخر غير ربطه به.

وبعبارة أخرى: اللاَّزِم لازم لِخُصُوصِيَّة فِي ربط الحكم بطرفه، وهذا هو عين التَّعْرِيف الَّذي ذكره سَيِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِيد رَحِمَهُ اللَهُ، فرجعنا مرّةً أخرى إلى القول بأن المفهوم هو لازم للربط الخاصّ القائم بين الحكم وطرفه، فما ذكره ليس تعريفاً جديدا.

 هذا تمام الكلام فِي تعريف المفهوم،وقد عرفت ما هو الصَّحِيح فِي تعريفه، وبهذا نكون قد فرغنا عن الإجابة على السُّؤَال الأوّل من السُّؤَالين المطروحين فِي المقام.

تنبيه: وقبل الانتقال إلى الجواب على السُّؤَال الثَّانِي حول ضابط المفهوم، ينبغي التَّنبيه على أمرٍ له علاقة بتعريف المفهوم، وهو أَنَّنَا بعد أن عرفنا أَنَّ الْمَفْهُومَ عبارة عن الحكم الْمُسْتَفَاد من المنطوق بالدِّلالة الاِلْتِزَامِيَّة الثَّابِتَة على أساس الملازمة الموجودة بين هذا اللاَّزِم وبين ربط الحكم الْمَنْطُوقِيّ بطرفه، فهناك ملزوم وهو ربط الحكم الْمَنْطُوقِيّ بطرفه، وهناك لازم وهو المفهوم، أي: الحكم الْمُسْتَفَاد من المنطوق بالالتزام.

 وحينئِذٍ فنحن نواجه سؤالاً وهو أن هذا الحكم الْمَفْهُومِيّ الْمُسْتَفَاد من المنطوق بالالتزام لا بُدَّ من أن يكون له موضوع؛ إذ لا حكم من دون موضوع، ولا إشكال فِي أن نفس الحكم غير مذكور فِي المنطوق، لا بشخصه، وإلا لأصبح منطوقاً، ولا بسنخه ونوعه وإلا لم يكن مفهوماً مخالفاً.

 وإنَّما الكلام فِي موضوعه، وأنَّه هل هو مذكور فِي المنطوق أم لا؟ فهل أن من خواص المفهوم الَّذي نبحث عنه فِي المقام عدم كون موضوعه مذكوراً فِي المنطوق؟

المشهور ذلك، حيث قالوا إن من خواص المفهوم هو أَنَّهُ حكم على موضوع غير مذكور فِي المنطوق، بينما ذكر المُحَقِّق الإصفهاني رَحِمَهُ اللَهُ أَنَّهُ ليس حكماً على موضوع غير مذكور، بل هو حكم غير مذكور فِي المنطوق، حيث قال بعد عبارته الَّتي نقلناها عنه فِي التَّعْرِيف: «فصح أن يقال: إن المفهوم إِنَّمَا هو حكم غير مذكور لا أَنَّهُ حكم لغير المذكور».

[1] - هامش بحوث فِي علم الأصول: ج3، ص141.