الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

30/11/02

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: دلالة النَّهْي/البحوث اللُّغَوِيَّة الاكتشافية/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 كُنَّا نتكلّم عن النَّهْي وانقسامه إلى نهي مولويّ ونهي إرشادي، وذكرنا معنى النَّهْي الْمَوْلَوِيّ ومعنى النَّهْي الإرشادي، وذكرنا أيضاً ما يترتَّب على كل واحد منهما من حيث العقل، وكذلك ذكرنا أقسام النَّهْي الإرشادي.

 بقي أن نبحث عن أَنَّهُ ما هو مقتضى النَّهْي الصَّادر من الشَّارع؟ هل الأصل فِي النَّهْي الشَّرْعِيّ أن يكون مولويّاً، إلاَّ إذا وجدت قرينة على الإرشاد، بحيث يكون النَّهْي الإرشادي هو المحتاج إلى قرينة، وإلا فإن النَّهْي مِنْ دُونِ قرينة يَدُلّ على النَّهْي الْمَوْلَوِيّ؟!

 إذن، أوَّلاً ندرس مقتضى الأصل اللَّفظيّ.

وثانياً: ندرس مقتضى الأصل الْعَمَلِيّ عند الشَّكّ فِي كون النَّهْي مولويّاً أو إرشاديّاً.

أما الأوّل فلا إشكال فِي أن مقتضى الأصل اللَّفظيّ فِي النَّهْي الصَّادر من المولى كونه مولويّاً لا إرشاديّاً، فهو ظاهر فِي الزَّجْر الْمَوْلَوِيّ التَّحْرِيمِيّ عن الفعل؛ فَإِنَّ هذا هو مقتضى أصالة التَّطَابُق بين المدلول التَّصوُّريّ والمدلول التَّصديقيّ.

 إذن، فحمل النَّهْي على الإرشاد بحاجة إلى قرينة؛ لأَنَّ النَّهْي الإرشادي (كما عرفنا) يختلف مدلوله التَّصديقيّ عن مدلوله التَّصوُّريّ ولا يتطابقان، وهذا الاختلاف وعدم التَّطَابُق خلاف الأصل وَالظَّاهِر، فلا بُدَّ له من قرينةٍ تَدُلّ عليه.

 والقرينة قد تكون عَقْلِيَّة أو وجدانية، كما فِي النَّهْي عن معصية الله تبارك وتعالى؛ فَإِنَّ القرينة على إرشادية النَّهْي المذكور عبارة عن لزوم التسلسل فيما إذا حمل على النَّهْي الْمَوْلَوِيّ، وهو إما مستحيل عقلاً لو قلنا باستحالة التسلسل فِي مثل ذلك من الأمور الاعتبارية، وإما هو خلاف الوجدان الحاكم بعدم وجود نواهٍ متسلسلة ومتكرّرة من هذا القبيل فِي مثل هذا المورد.

 وَقَدْ تَكُونُ القرينة ارتكازية عُقَلاَئِيَّة، كما فِي النَّهْي الصَّادر من المولى فِي موردٍ توجد فيه سيرة عُقَلاَئِيَّة مُعَيَّنة على طبقه أو ارتكاز عُقَلاَئِيّ مُعَيَّن على طبقه، مثل النَّهْي عن تصديق الإنسان غير الثقة.

 وَقَدْ تَكُونُ القرينة عبارة عن ضرورةٍ فِقْهِيَّة مُعَيَّنَة موجودة فِي المورد تسالم فِقْهِيّ مُعَيَّن موجود فِي ذلك المورد، أو نكات أخرى قد تَتَوَفَّرٌ فِي الدَّلِيل الَّذي يرد فيه النَّهْي فتكون قرينة على كونه إرشاديّاً، من قبيل النُّكتة الموجودة فِي دليل النَّهْي عن الصَّلاة فِي ما لا يؤكل لحمه، أو الصَّلاة فِي النجس أو فِي الحرير أو فِي الذَّهَب مثلاً؛ فَإِنَّ النُّكتة الَّتي توجب حمل النَّهْي المذكور عرفاً على الإرشاد إلى مَانِعِيَّة هذه الأمور عن الصَّلاة عبارة عن تعلّق النَّهْي بإيقاع الصَّلاة فِي هذه الأمور لا بِنَفْسِ الصَّلاَةِ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ النَّهْيُ بذات الصَّلاة كي يكشف عن وجود مفسدة فيها ويكون نَهْياً مولويّاً، وإنَّما تعلّق بإيقاعها فيها، وهذه النُّكتة قرينة عُرْفِيَّة مثلاً على أن النَّهْي إرشاد إلى مَانِعِيَّة هذه الأمور وَتَقَيُّد الصَّلاة بعدمها ما دام النَّهْي وبالتَّالي ملاك النَّهْي قائما بإيقاع الصَّلاة فيها لا بذات الصَّلاة.

وأمّا الثَّانِي: وهو مقتضى الأصل الْعَمَلِيّ عند الشَّكّ فِي كون النَّهْي مولويّاً أو إرشاديّاً فلا إشكال فِي أن الأصل الْعَمَلِيّ يقتضي كونه إرشاديّاً لجريان البراءة عن الحرمة النَّفْسِيَّة عند الشَّكّ فيها كما هو واضح. هذا تمام الكلام فِي الجهة الثَّامنة.

وأمّا الجهة التَّاسعة: ففي البحث عن دلالة النَّهْي على النَّفْسِيَّة أو الغَيْرِيَّة، وهو نظير البحث الثَّالث عشر المتقدّم (أي: بحث دلالة الأمر على النَّفْسِيَّة أو الغَيْرِيَّة)، فَكَمَا أَنَّ الأمر قد يكون نفسيّاً وَقَدْ يَكُونُ غَيْرِيّاً (كما تقدّم فِي ذاك البحث)، فكذلك النَّهْي قد يكون نفسيّاً وَقَدْ يَكُونُ غَيْرِيّاً.

 والمقصود بِالنَّهْيِ النَّفْسِيّ هو النَّهْي عن شيء لملاك فِي نفسه، كَالنَّهْيِ عن شرب الخمر والكذب والغيبة وَالرِّبَا وَالزِّنَا ونحوها، وَكَالنَّهْيِ عن الشرك بالله تعالى وعن السجود للصنم باعتباره شركاً.

 والمقصود بِالنَّهْيِ الغَيْرِيّ هو النَّهْي عن شيء لملاكٍ فِي غيره، كَالنَّهْيِ عن مقدّمة الحرام الَّتي هي علّة تامَّة له (بناءًا على أن مقدّمة الحرام حرام)، وَكَالنَّهْيِ عن الضد الَّذي يقتضيه الأمر بالشيء (بناءًا على اقتضاء الأمر بالشيء النَّهْي عن ضِدّه)، كَالنَّهْيِ عن الصَّلاة الَّذي يقتضيه الأمر بإزالة النَّجَاسَة عن المسجد.

 وخصائص النَّهْي النَّفْسِيّ كخصائص الأمر النَّفْسِيّ، كما أن خصائص النَّهْي الغَيْرِيّ كخصائص الأمر الغَيْرِيّ، وقد تقدّمت خصائص الأمر النَّفْسِيّ والأمر الغَيْرِيّ فِي بحث دلالة الأمر على النَّفْسِيَّة أو الغَيْرِيَّة.

 فمثلاً الحرام النَّفْسِيّ له عصيان مستقلّ وعقاب مستقلّ، بينما الحرام الغَيْرِيّ ليس له عصيان وعقاب مستقلّ.

وبعبارة أخرى: إن التَّنَجُّز وحكم العقل بقبح العصيان وباستحقاق العقاب على العصيان خاصّ بالحرمة النَّفْسِيَّة، أمّا الحرمة الغَيْرِيَّة فلا تنجّز لها غير تنجّز الحرمة النَّفْسِيَّة الَّتي نشأت هي منها، فَمَن فَعَل الحرام النَّفْسِيّ، بعد فعل مقدّمته مثلاً لم يرتكب عصيانين ولا يستحقّ عقابين عقلاً حتّى على القول بحرمة مقدّمة الحرام.

وَكَيْفَ كَانَ، فلا إشكال فِي أن مقتضى الأصل اللَّفظيّ فِي النَّهْي هو كونه نَهْياً نفسيّاً، فلا يحمل على الغَيْرِيّ إلاَّ بقرينة. فإذا قال المولى مثلاً: «لا تشرب الخمر» حمل على كون شرب الخمر حراماً نفسيّاً وليس حراماً غَيْرِيّاً من باب أَنَّهُ مقدّمة وعلة تامَّة لحرام آخر؛ وذلك لأَنَّ الظَّاهِر من النَّهْي الْمُتَعَلِّقِ بفعلٍ هو كون ملاك النَّهْي كامناً فِي نفس الفعل، لا فِي شيء آخر. فظاهر الحرمة هو كونها ناشئة من ملاكٍ فِي نفس الحرام، لا فِي شيء آخر، وهذا يعني أن الحرمة نفسية؛ فَإِنَّ الحرمة النَّفْسِيَّة هي الحرمة النَّاشِئَة من ملاكٍ فِي نفس الحرام، بينما الحرمة الغَيْرِيَّة هي الْحُرْمَة النَّاشِئَة من ملاكٍ فِي غير الحرام، فينطبق فِي المقام ما اخترناه (فِي البحث الثَّالث عشر المتقدّم، أعني: البحث عن دلالة الأمر على النَّفْسِيَّة والغَيْرِيَّة) من تقريب لإِثْبَاتِ أَنَّ مُقْتَضَى الأَصْلِ اللَّفْظِيِّ كونه نفسيّاً.

 وحاصله أَنَّهُ كُلَّمَا دار الأمر ثبوتاً بين خُصُوصِيَّتَيْنِ وكانت كل واحدة منهما تناسب خصوصيةً فِي مقام الإثبات، فأصالة التَّطَابُق بين مقامي الثُّبوت والإثبات تعيّن الْخُصُوصِيَّة الثُّبوتيّة المتناسبة مع الْخُصُوصِيَّة الموجودة فِي عالم الإثبات.

 وفي المقام حيث يدور الأمر ثبوتاً بين خُصُوصِيَّة النَّفْسِيَّة وخصوصية الغَيْرِيَّة، والأولى تناسب الاستقلال فِي الذكر إثباتاً، بينما الثَّانية تناسب التَّبَعِيَّة فِي الذكر إثباتاً، فيقال نظراً إلى أن المولى قد نَهَىٰ عن الشَّيْء إثباتاً وكان هذا النَّهْي الإثباتيّ مستقلاًّ ولم يكن بِتَبَعِ النَّهْي عن شيء آخر، فمقتضى أصالة التَّطَابُق بين الثُّبوت والإثبات هو أن المراد ثبوتاً أيضاً هو النَّهْي النَّفْسِيّ دون الغَيْرِيّ التَّبَعِيّ، وإلا لكان المناسب أن يُذكر النَّهْي إثباتاً بشكل تبعي. هذا فيما يقتضيه الأصل اللَّفظيّ.