الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

30/10/28

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: دلالة النَّهْي/البحوث اللُّغَوِيَّة الاكتشافية/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 قلنا إن هناك إشكالاً مطروحاً حول ما قلناه من أن العقل يرى فرقاً فِي الكلّي الطَّبِيعِيّ بين جانب الوجود وجانب العدم، فيرى أن الطَّبِيعَة توجد بوجود فرد واحد، بينما لا تنعدم إلاَّ بانعدام كل الأفراد. وهذا الفارق يؤثر على الأمر وَالنَّهْي فِي مقام امتثال المُكَلَّف لهما، حيث أَنَّهُ فِي مقام امتثال الأمر يحكم العقل بأن الإتيان بفرد واحد من أفراد الْمُتَعَلَّق كافٍ؛ لأَنَّ الطَّبِيعَة قد وجدت بوجود هذا الفرد الواحد، فتحقق الامتثال بوجود هذا الفرد الواحد، ولا يتحقّق عصيان الأمر إلاَّ بترك كل الأفراد. بينما فِي جانب النَّهْي تنعكس الآية، حيث يُراد فِي النَّهْي إعدامُ الطَّبِيعَة، والعقل يرى أن الطَّبِيعَة فِي جانب العدم لا تنعدم إلاَّ بانعدام جميع أفرادها، فلا يتحقّق امتثال النَّهْي إلاَّ بالاجتناب عن كل الأفراد.

 فحصل فرق بين مُتَعَلَّق الأمر وَمُتَعَلّق النَّهْي فِي مقام الامتثال. فالإطلاق فِي عالم الامتثال فِي جانب الأمر بدليّ أيضاً، بينما الإِطْلاَق فِي مُتَعَلَّق النَّهْي في عالم الامتثال شُمُولِيّ أيضاً.

 وقلنا: إن هذا الفرق واجهَ إشكالاً يقول: هذا الفرق مبتنٍ على أن نَقُول: إِنَّ الكلّي الطَّبِيعِيّ يوجد بوجود فرد واحد وينعدم بانعدام كل الأفراد، وهذا إِنَّمَا يصحّ بناءًا على تصوّر الْهَمِدَانِيّ عن الكلّي الطَّبِيعِيّ، الَّذي كان يتصوّر أن الكلّي الطَّبِيعِيّ له وجود واحد منتشر فِي الأفراد. فبناءًا على هذا التَّصَوُّر فتوجد الطَّبِيعِيّ بوجود فرد ولا تنعدم إلاَّ بانعدام كل الأفراد. أما على التَّصَوُّر الصَّحِيح القائل بأن الكلّي الطَّبِيعِيّ لَيْسَ وجوداً واحداً عدديّاً منتشراً فِي الأفراد، بل هو وجودات عديدة منتشرة فِي الأفراد (نسبته إلى الأفراد نسبة الآباء لا نسبة الأب الواحد إلى الأولاد). فلم يبق فرق بين الأمر وَالنَّهْي. هذا هو الإشكال المتقدّم شرحه.

والجواب على هذا الإشكال هو ما تقدّم فِي بحث دلالة الأمر على المرَّة أو التَّكرار حيث قلنا هناك: إن مسألتنا الأصولية هنا لا ربط لها بتلك المسألة الْفَلْسَفِيَّة والخلاف حول الكلّي الطَّبِيعِيّ وأن نسبته إلى أفراده هل هي نسبة الأب أو الآباء إلى الأبناء؛ فَإِنَّ ذاك النزاع الْفَلْسَفِيّ إِنَّمَا يرتبط بالوجود الخارجيّ لِلْكُلِّيِّ وأنه هل له وجود خارجي واحد كالأب، أم أنَّ له وجودات خارجيّة عديدة كالآباء، وهذا أجنبي عمَّا هو محلّ البحث هنا فِي المسألة الأصولية؛ لأَنَّ البحث هنا إِنَّمَا هو عن معروض الأمر ومعروض النَّهْي، وقد قلنا مراراً: إن معروض الحكم (أمراً كان أم نَهْياً) عبارة عن المفهوم والعنوان والصورة الذِّهْنِيَّة وليس عبارة عن الوجود الخارجيّ مباشرةً، فالمفهوم والعنوان هو مُتَعَلَّق الأمر وَالنَّهْي، طِبْقاً لا بما هو مفهوم وعنوان وصورة ذهنية، بل هو بما هو مرآة للوجود الخارجيّ وفانٍ فيه. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ نسبة المفهوم والعنوان إلى المصاديق والمعنونات هي نسبة الأب إلى الأبناء بلا خلاف ولا إشكال؛ لأَنَّ مفهوم «الصَّلاة» مثلاً مفهوم واحد وعنوان فارد، وليس له فِي عالم المفاهيم والعناوين إلاَّ وجود واحد لا وجودات عديدة كالآباء.

 وحينئِذٍ فَيَصِحُّ أن نقول: إن هذا المفهوم والعنوان يوجد بوجود فرد واحد من مصاديقه وأفراده، ولا ينعدم إلاَّ بانعدام الكل، فيكون الفرق العَقْلِيّ المذكور بين الأمر وَالنَّهْي تامّاً، حيث أن المطلوب فِي باب الأمر إيجاد المفهوم، وهو يتحقّق بوجود فرد واحد، فامتثال الأمر يكون بفرد واحد، وعصيان الأمر لا يكون إلاَّ بترك جميع الأفراد؛ لأَنَّ تركها إعدام للمفهوم الَّذي أُمِرَ بإيجاده والمطلوب فِي باب النَّهْي إعدام المفهوم، وهو يتحقّق بإعدام جميع الأفراد، فامتثال النَّهْي يكون بترك كلّ الأفراد، وعصيانه يكون بإيجاد فرد واحد؛ لأَنَّ إيجاده إيجاد للمفهوم الَّذي نَهَىٰ عن إيجاده.

 هذا تمام الكلام فِي الجهة الرَّابعة، وقد اتَّضَحَ أن النَّهْي شُمُولِيّ، بخلاف الأمر.

وأمّا الجهة الخامسة: ففي التَّنبيه على أَمْرَيْنِ يَتَعَلَّقَانِ بالجهة الثَّالثة والرابعة:

التَّنبيه الأوّل: أَنَّنَا ذكرنا فِي الجهة الثَّالثة أن النَّهْي اِنْحِلاَلِيّ بنكتة غلبة نشوئه من المفسدة وغلبة كون المفسدة اِنْحِلاَلِيَّة، وذكرنا فِي الجهة الرَّابعة أن النَّهْي شُمُولِيّ بنكتة كونه نَهْياً عن الطَّبِيعِيّ وهو لا ينعدم إلاَّ بانعدام جميع أفراده، والآن نقول: إن هَاتَيْنِ الميزتين الثَّابِتَتَيْنِ للنهي (الاِنْحِلاَلِيَّة وَالشُّمُولِيَّة) محفوظتان له سواء قلنا فِي الجهة الثَّانية من البحث أن مفاد صيغة النَّهْي عبارة عن الزَّجْر عن الفعل كما هو الصَّحِيح الَّذي اخترناه، أم قلنا: إن مفادها هو طلب التَّرْك؛ وذلك أما بالنسبة إلى الميزة الأولى فَلأَنَّ كلاًّ من «الزَّجْر عن الفعل» و«طلب ترك الفعل» يحصل غالباً من المفسدة الاِنْحِلاَلِيَّة الموجودة فِي كل مصداق من مصاديق الفعل، فيكون النَّهْي اِنْحِلاَلِيّاً حتّى ولو كان النَّهْي عبارة عن طلب ترك الفعل؛ ولذا فإنّ العرف يفهم الاِنْحِلاَل أيضاً حتّى إذا صرَّح بطلب التَّرْك، كما إذا قال: «أطلب منك ترك شرب الخمر»، أو أَمَر بالتَّرك، كما إذا قال: «آمرك بترك شرب الخمر»، أو قال: «اُترك شرب الخمر»، مَعَ أَنَّ الطّلب أو الأمر ليس اِنْحِلاَلِيّاً؛ فإِنَّهُ مع ذلك يفهم العرف من ذلك كُلّه الاِنْحِلاَل، وليس ذلك إلاَّ من جهة غلبة كون طلب التَّرْك أيضاً كالزجر عن الفعل ناشئاً عن وجود مفسدة اِنْحِلاَلِيَّة ثابتة فِي كُلّ مصداق من مصاديق الفعل.

 هذا بِالنِّسْبَةِ إلى الميزة الأولى الَّتي ذكرناها للنهي فِي الجهة الثَّالثة، وكذلك الأمر بِالنِّسْبَةِ إلى الميزة الثَّانية الَّتي ذكرناها له فِي الجهة الرَّابعة، وهي الشُّمُولِيَّة بنكتة أن الطَّبِيعِيّ الْمَنْهِيّ عَنْهُ لا ينعدم إلاَّ بانعدام جميع أفراده، فإِنَّهُ أيضاً لا فرق فيها بين أن نقول: إن مفاد النَّهْي هو الزَّجْر عن الطَّبِيعِيّ، أو أن نقول: إنّ مفاده هو طلب ترك الطَّبِيعِيّ؛ فإنَّ الزَّجْر عن الطَّبِيعِيّ والانزجار عنه لا يكون إلاَّ بِالزَّجْر والانزجار عن جميع أفراده، كما أن ترك الطَّبِيعِيّ أيضاً لا يكون إلاَّ بترك جميع أفراده.

التَّنبيه الثَّانِي: أَنَّنَا ذكرنا فِي الجهة الرَّابعة وجود فارق عقلي بين الأمر وَالنَّهْي فِي مقام الامتثال والعصيان، وهو أن فِي الأمر يُراد إيجادُ الطَّبِيعَة، وبما أنَّها توجد بوجود فرد واحد، لذا يُكتفى فِي امتثاله بإيجاد فرد واحد، وأمّا فِي النَّهْي فالمُراد إعدامها والانزجار والانتهاء عنها، وهذا لا يكون إلاَّ بانعدام جميع أفرادها، لذا لا يُكتفى فِي امتثاله بترك فرد واحد، بل النَّهْي يشمل جميع الأفراد، والآن نقول: إن هذه الميزة الثَّابِتَة للنهي (وهي أنّ امتثاله إِنَّمَا يكون بالاجتناب عن كلّ الأفراد) إِنَّمَا تَتُِمّ وتصح فِي ما إذا كان مُتَعَلَّق النَّهْي عبارة عن الكلّي الطَّبِيعِيّ والجامع الحقيقي كالكذب وشرب الخمر ونحوهما مِمَّا كُنَّا نمثّل به حتّى الآن، أمّا إذا كان متعلّقه عبارة عن الجامع الانتزاعي مثل عنوان «أحدهما» أو «أحدها»، فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إن هذا النَّهْي أيضاً (كسائر النَّواهي الْمُتَعَلَّقَةِ بِالْكُلِّيَّاتِ وَالطَّبَائِع والجوامع الحقيقيَّة)، إِنَّمَا يُمتثل بترك كِلا فرديْ هذا الجامع الانتزاعي أو بترك كل أفراده، نظراً إلى أن الجامع ينطبق على كل من الفردين أو الأفراد؛ فَإِنَّ هذا الكلام غير صحيح. بل يكفي فِي امتثال النَّهْي الْمُتَعَلَّق بالجامع الانتزاعي ترك أحد الفردين أو الأفراد والاجتناب عنه.

والنُّكتة فِي ذلك هي أن العنوان والجامع الاِنْتِزَاعِيّ ليس إلاَّ عُنْوَاناً ذِهْنِيّاً مشيراً إلى فرد مُعَيَّنٍ تارةً كما فِي قوله: «جاءني أحدهما أو أحدهم» بدلاً من أن يقول مثلاً: «جاءني زيد»، وإلى فردٍ مُرَدَّدٍ تارةً أخرى (ونقصد بِالْمُرَدَّدِ ما هو مُرَدَّد فِي الإشارة إليه، لا ما هو مُرَدَّد فِي وجوده الخارجيّ؛ فَإِنَّ ذاك مستحيل)، وذلك كما فِي قوله: «جئني بأحدهم أو بأحدهما»، فليس الجامع الاِنْتِزَاعِيّ جامعاً فِي الحقيقة بحيث ينطبق على كلا الفردين أو على كل الأفراد، سواء المشار إليه وغيره كما فِي سائر الجوامع، بل هو عنوان مشير إلى فردٍ واحدٍ من الفردين أو الأفراد. وحينئِذٍ إذا تعلّق النَّهْي به كفى فِي امتثاله ترك فرد واحد والاجتناب عنه؛ لأَنَّ هذا الجامع لم يكن أكثر من عنوانٍ مشيرٍ إلى فرد واحد كما قلنا.

وبعبارة أخرى: مثل عنوان «أحدهما» أو «أحدها» أو نحو ذلك يختلف عن أي عنوان جامع آخر فِي نقطة وهي أَنَّهُ يمكن أن يصدق فِي حقه «الوجود» و«العدم» فِي آنٍ واحد، فنقول مثلاً: «أحدهما موجود» و«أحدهما معدوم»، وهذا بخلاف سائر الْجَوَامِع وَالطَّبَائِع الكلّيّة؛ فإِنَّهُ لا يُضاف إليها العدم إلاَّ بانعدام تمام مصاديقها وأفرادها، وهذا يعني أن مثل عنوان «أحدهما» ونحوه ليس جامعاً حقيقيّاً وكلّيّاً طبيعيا، بل هو شبه كلي ومجرّد رمزٍ ذهني يُراد به التَّعْبِير عن شيء فِي الخارج، فبدلا عن أن يقول مثلاً: «جاء زيد» يقول: «جاء أحدهما أو أحدهم»، فإن هذا ليس جامعاً ينطبق على زيد وعمرو كما فِي سائر الجوامع مثل «الإنسان»، بل هو رمز فقط.

 وتأتي تتمة البحث - إن شاء الله - غداً.