الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

30/10/14

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: دلالة النَّهْي/البحوث اللُّغَوِيَّة الاكتشافية/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

وَأَمَّا الجهة الثَّالثة: ففي البحث عن كون النَّهْي اِنْحِلاَلِيّاً، فهل الْمُسْتَفَاد من النَّهْي هو الانحلال وتعدُّد الحكم، بحيث يكون الإطلاق فيه شُمُولِيّاً وَاِسْتِغْرَاقِيّاً، فإذا قال مثلاً: «لا تكذب» أو قال: «أنهاك عن الكذب»، يكون مقتضى إطلاقه الشُّمُولِيّ حرمة كل كذب على نحو الاستغراق، فَتَتَعَدَّدُ الحرمة وتنحلّ إلى حرمات عديدة بعدد أفراد الطَّبِيعَة ومصاديق الكذب، أم أن النَّهْي لا يستفاد منه الانحلال وتعدُّد الحكم، بل الإطلاق فيه بدليّ، فلا توجد إلاَّ حرمة واحدة متعلِّقة بكذبٍ واحد على سبيل البدل، كما هو الحال في الأمر؛ فَإِنَّ الإطلاق فيه بدليّ حيث أن قوله مثلاً: «صلِّ» أو قوله: «آمرك بالصَّلاة» لا يستفاد منه إلاَّ وجود واحد مُتَعَلِّق بصلاة واحدة. فصحيح أن إطلاقه يشمل كل صلاة؛ لعدم تَقَيُّد طبيعة الصَّلاة بقيدٍ، إلاَّ أنَّ هذا الإطلاق بدليّ، بمعنى أَنَّهُ تجب صلاة واحدة على البدل، وليس الْمُسْتَفَاد منه الانحلال وتعدُّد الحكم بحيث توجد وجوبات عديدة بعدد أفراد الطَّبِيعَة ومصاديق الصَّلاة.

والأثر الْعَمَلِيّ يظهر في ما لو صدر الفعل الْمَنْهِيُّ عَنْهُ من المُكَلَّف مرّةً واحدة، كما لو كذب مرّةً، فبناءًا على أن الْمُسْتَفَاد من النَّهْي كالأمر وحدة الحكم وعدم انحلاله إلى أحكام عديدة بعدد مصاديق الطَّبِيعَة المنهي عنها، لا يكون الكذب الثَّانِي محرَّماً عليه؛ لأَنَّ الْمُسْتَفَاد من النَّهْي كان عبارة عن حرمة واحدة، وقد ارتفعت بالعصيان من خلال الكذب الأوّل.

وبعبارة أخرى: يكون مطلق وجود الكذب حراماً، فكل وجودٍ من وجوداته له حرمة، ولها امتثال وعصيان مستقلّ.

 وعلى كل حال فالمعروف والمشهور، بل الظَّاهِر أَنَّهُ لا خلاف ولا إشكال في أن الإطلاق في النَّهْي شُمُولِيّ اِنْحِلاَلِيّ، خلافاً للأمر الَّذي إطلاقه بدليّ.

 فالمستفاد من النَّهْي هو كون مُتَعَلَّق التَّحْرِيم عبارة عن المطلق بنحو الإطلاق الاستغراقيّ الشُّمُولِيّ، بينما الْمُسْتَفَاد من الأمر هو كون مُتَعَلَّق الوجوب عبارة عن المطلق بنحو الإطلاق الْبَدَلِيّ، فالحرام هو مطلق وجود الطَّبِيعَة، بينما الواجب هو صرف وجودها.

 إنّما البحث يدور حول تكييف الإطلاق الْبَدَلِيّ في باب الأمر والإطلاق الشُّمُولِيّ في باب النَّهْي وتفسير هذا الاختلاف في الإطلاق بين البابين؛ إذ نواجه السؤال القائل: كيف اختلف مُتَعَلَّق الأمر عن مُتَعَلَّق النَّهْي، مع أنَّ كُلاَّ منهما مُتَعَلَّق للحكم الشَّرْعِيّ، وكل منهما أريد به الطَّبِيعَة، فلماذا أصبح الإطلاق في الأوّل بَدَلِيّاً، وفي الثَّانِي شُمُولِيّاً؟ وما هو تفسير هذا الاختلاف مع أن كلا الإطلاقين ثابت بِمُقَدَِّمَاتِ الْحِكْمَةِ الَّتي لا تختلف في باب الأمر عنها في باب النَّهْي، فكيف أنْتَجَتْ الْبَدَلِيَّةَ هناك وَالاِنْحِلاَلِيَّة هنا؟!

وقد ذكر السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رَحِمَهُ اللَهُ (في مقام علاج الإشكال والجواب على السؤال المذكور) أنَّ مُقَدَِّمَاتِ الْحِكْمَةِ إنّما تُنتِج دائماً (سواء في باب الأمر أو في باب النَّهْي) الإطلاق، وأمّا تعيّن قسمٍ من أقسام الإطلاق وأنه هل هو بدليّ أو شُمُولِيّ؟ فهو إنّما يكون بقرينة عَقْلِيَّة، فالمقدار المشترك الَّذي تُثبته مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ في كلا البابين وفي سائر الموارد إنّما هو أصل الإطلاق، لكن هذا المقدار لا يعيّن لنا أن الإطلاق من أيّ قسمٍ هو؟ هل هو بدليّ أم هو شُمُولِيّ؟ وإنَّما الَّذي يعيِّن ذلك عبارة عن قرينة عَقْلِيَّة تَنْضَمُّ إلى مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ، فتكون النَّتِيجَة عبارة عن الإطلاق الْبَدَلِيّ فِي بَعْضِ الْمَوَارِدِ، والإطلاق الشُّمُولِيّ فِي بَعْضِهَا الآخَرَ.

 فمثلاً في باب الأمر حينما يقول المولى مثلاً: «صلِّ» فإنَّ مُتَعَلَّق الأمر لا يخلو من أحد فروض ثلاثة:

فإما أن يكون عبارة عن صلاةٍ معيَّنة (كالصَّلاة في المسجد) أو مجموعة معيَّنة من الصلوات (كعشرين صلاة في عِشْرِينَ مَسْجِداً). وإما أن يكون عبارة عن مطلق وجود الصَّلاة (أي: جميع الصلوات) وهو معنى الإطلاق الشُّمُولِيّ الاستغراقيّ. وإما أن يكون عبارة عن صرف وجود الصَّلاة (أي: إحدى الصلوات لا بعينها، بل على البدل)، وهو معنى الإطلاق الْبَدَلِيّ. فأمَّا الفرض الأوّل: فهو منفي بِمُقَدَِّمَاتِ الْحِكْمَةِ؛ إذ لا خُصُوصِيَّة في تلك الصَّلاة الخاصّة أو تلك المجموعة الخاصّة من الصلوات توجب حمل لفظ «الصَّلاة» عليها بالخصوص. فهي وسائر الأفراد والمجاميع على حدّ سواء بالنسبة إلى الطَّبِيعَة المأمور بها، فلو كان مقصود المولى تلك الصَّلاة أو تلك المجموعة بالخصوص، كان عليه أن ينصب قرينة على ذلك ويذكر قيداً للطبيعة (بأن يقول: «صلِّ في المسجد» أو «صلِّ عِشْرِينَ صلاةً في المسجد)؛ لعدم دلالة نفس لفظ «الصَّلاة» على خصوص تلك الصَّلاة أو تلك المجموعة، وحيث أن المولى كان في مقام البيان، ولم يذكر القيد والقرينة على إرادة خصوص تلك الصَّلاة أو خصوص تلك المجموعة، إذن فاحتمال أن تكون هي بالخصوص مرادةً للمولى احتمال ساقط. وأمّا الفرض الثَّانِي: فهو منفيّ بالقرينة الْعَقْلِيَّة القائلة باشتراط القدرة على مُتَعَلَّق التَّكليف والأمر؛ فَإِنَّ الإتيان بجميع الصلوات غير مقدور للمكلَّف، لتزاحم أفراده العَرْضِيَّة وَتَضَادّهَا. إذن، فلا يمكن أن يكون مُتَعَلَّق الأمر عبارة عن مطلق وجود الصَّلاة.

 وعليه، فيتعيَّن الفرض الثَّالث وهو الإطلاق الْبَدَلِيّ.

 وفي باب النَّهْي حينما يقول المولى مثلاً: «لا تكذب» فإن مُتَعَلَّق النَّهْي أيضاً لا يخلو من أحد فروض ثلاثة:

فإما أن يكون عبارة عن كذبٍ خاصّ، كالكذب على الله ورسوله، أو مجموعة خاصّة من الأكاذيب (كالكذب على الله والرسول والكذب في حال الصوم، والكذب في حال الإحرام). وإمّا أن يكون عبارة عن أحد الأكاذيب لا بعينه، بل على البدل، بحيث يُكتفى من المُكَلَّف أن يترك كذباً واحداً، وهو معنى الإطلاق الْبَدَلِيّ. وإمّا أن يكون عبارة عن مطلق وجود الكذب وجميع مصاديقه، وهو معنى الإطلاق الشُّمُولِيّ. فأمَّا الفرض الأوّل: فهو منفيّ بِمُقَدَِّمَاتِ الْحِكْمَةِ؛ إذ لا خُصُوصِيَّة في ذاك الكذب الخاصّ أو في تلك المجموعة الخاصّة من الأكاذيب توجب حمل لفظ «الكذب» عليه أو عليها بالخصوص، فكل أفراد الكذب وكل مجموعة من مجاميعه الَّتي نتصوّرها على حدّ سواء بالنسبة إلى الطَّبِيعَة المنهي عنها، فلو كان مقصود المولى ذاك الفرد الخاصّ أو تلك المجموعة الخاصّة كان عليه أن ينصب قرينة على ذلك ويذكر قيداً للطبيعة (بأن يقول: «لا تكذب على الله ورسوله» أو يقول: «لا تكذب على الله والرسول ولا في الإحرام ولا في الصَّوْم») لعدم دلالة نفس لفظ «الكذب» على خصوص ذاك الكذب الخاصّ أو تلك المجموعة الخاصّة. وحيث أن المولى كان في مقام البيان ولم يذكر القيد والقرينة على إرادة خصوص ذاك الكذب أو خصوص تلك المجموعة، إذن فاحتمال أن يكون المراد تحريمه بالخصوص أو تحريمها بالخصوص احتمال ساقط ومنتفٍ. وأمّا الفرض الثَّانِي: فهو منفيّ بالقرينة الْعَقْلِيَّة على عكس ما وجدناه في مُتَعَلَّق الأمر، فبينما كانت القرينة الْعَقْلِيَّة تنفي الإطلاق الشُّمُولِيّ في مُتَعَلَّق الأمر، نجدها هنا تنفي الإطلاق الْبَدَلِيّ في مُتَعَلَّق النَّهْي، وتقول: إِنَّه لا يعقل تعلّق النَّهْي والحرمة بأحد الأكاذيب لا بعينه وعلى نحو البدل، بحيث يُكتفى من المُكَلَّف أن يترك كَذِباً وَّاحِداً من الأكاذيب؛ لأَنَّ هذا حاصل طبعاً وَقَطْعاً من المُكَلَّف؛ فَإِنَّ المُكَلَّف بنفسه ومن دون أن يُنهى سوف يترك كَذِباً وَّاحِداً حتماً، فترك كذب واحد أمر ضروري وقهري؛ إذ يستحيل عادةً أن يرتكب الإنسان كل الأكاذيب المتصوّرة، إذن فلا يعقل التَّكليف وَالنَّهْي عمَّا تركه قهري وضروري وحاصل؛ لأَنَّ مثل هذا التَّكليف وَالنَّهْي لغو. وعليه فيتعيّن الفرض الثَّالث وهو الإطلاق الشُّمُولِيّ، وحرمة كل أقسام الكذب.

 وكذلك في باب الأحكام الوضعيَّة حينما يقول المولى مثلاً: ﴿أحل الله البيع﴾؛ فإن موضوع هذا الحكم الوضعيّ (حسب تعبيره رَحِمَهُ اللَهُ) أيضاً لا يخلو من أحد فروض ثلاثة:

فإما أن يكون عبارة عن بيعٍ خاصّ كالبيع العقدي الواقع بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الماضي مثلاً، أو مجموعة خاصّة من البيوع (كالبيوع العقدية الواقعة بالعقد بأيّ لغة كانت وبأي صيغة مثلاً). وإما أن يكون عبارة عن أحد البيوع لا بعينه، بل على البدل، وهو معنى الإطلاق الْبَدَلِيّ. وإما أن يكون عبارة عن مطلق وجود البيع وجميع البيوع، وهو معنى الإطلاق الشُّمُولِيّ. فأمَّا الفرض الأوّل: فهو منفيّ بِمُقَدَِّمَاتِ الْحِكْمَةِ؛ إذ لا خُصُوصِيَّة في ذاك البيع أو في تلك المجموعة الخاصّة من البيوع تُوجب حمل لفظ ﴿البيع﴾ عليه أو عليها بالخصوص، فكل أفراد البيع وكل مجاميعه الَّتي نتصورها على حدّ سواء بالنسبة إلى الطَّبِيعَة الَّتي ثبت الحكم الوضعيّ (وهو الحلية والنفوذ) لها. فلو كان مقصود المولى ذاك البيع الخاصّ أو تلك المجموعة الخاصّة كان عليه أن ينصب قرينةً على ذلك ويذكر قيداً للطبيعة (بأن يقول مثلاً: «أحلَّ اللهُ البيعَ العقديَّ»)؛ لعدم دلالة نفس لفظ ﴿البيع﴾ على خصوص البيع العقدي. وحيث أن المولى كان في مقام البيان ولم يذكر القيد والقرينة على إرادة خصوص البيع العقدي، إذن فاحتمال أن يكون المراد حليته ونفوذه بالخصوص احتمال ساقط ومنتفٍ. وأمّا الفرض الثَّانِي: فهو منفيّ بالقرينة الْعَقْلِيَّة القائلة بأن من المستحيل أن يكون بيع واحد على البدل نَافِذاً. وعليه: فيتعيّن الفرض الثَّالث وهو الإطلاق الشُّمُولِيّ ونفوذ كل البيوع.

 هذا ما أفاده السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رَحِمَهُ اللَهُ([1] )، ولم يذكر المقرِّر نكتة استحالة الفرض الثَّانِي في مثل: ﴿أحل الله البيع﴾.

 وندرسه غداً إن شاء الله تعالى.

[1] - محاضرات في أصول الفقه: ج4، ص106-110، وراجع أيضاً دراسات في علم الأصول: ج2، ص97، ويوجد تهافت بين التقريرين يظهر بالتأمّل.