الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

30/10/11

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: دلالة النَّهْي/البحوث اللُّغَوِيَّة الاكتشافية/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 كُنَّا نناقش الرَّأْي القديم الأُصُولِيّ الَّذي كان يقول: إن مفاد صيغة الأمر وصيغة النَّهْي مفادهما ومدلولهما واحد، وهو الطّلب، غاية الأمر مُتَعَلَّق الطّلب مختلف، فإِنَّهُ هو الفعل فِي صيغة الأمر، بينما مُتَعَلَّق الطّلب فِي صيغة النَّهْي عبارة عن ترك الفعل. فكنا نناقش هذا الرَّأْي.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ المفهوم من صيغة الأمر مغاير للمفهوم من صيغة النَّهْي، وليس الاختلاف وَالتَّغَايُر بينهما من حيث الْمُتَعَلَّق (كما يدّعي قدماء الأُصُولِيِّينَ ذلك)؛ لأَنَّ صيغة الأمر وصيغة النَّهْي لو كان مفادهما متباينين (كما نَدَّعِيهِ نحن) فلا نحتاج إلى افتراض شيء غير المعنى الْحَرْفِيّ للهيئة والمعنى الاِسْمِيّ لِلْمَادَّة في اقتناص مفاد الأمر وَالنَّهْي كَامِلاً؛ إذ يكون مفاد قوله «صلِّ» مثلاً الإرسال نحو الصَّلاة، فالإرسال فهمناه من الهيئة والصلاة من الْمَادَّة، ومفاد قوله: «لا تكذب» مثلاً الزَّجْر عن الكذب، فالزجر فهمناه من الهيئة، والكذب من الْمَادَّة.

 فالهيئة في كل من الأمر وَالنَّهْي تَدُلّ على النِّسْبَة، والمادة في كلٍّ منهما تَدُلّ على طرف النِّسْبَة، وأمّا إذا أخذنا بوجهة نظر القدماء القائلة بأن مفاد كلتا الصِّيغَتَيْنِ واحد وهو الطّلب، فحينئذٍ نحتاج إلى توسيط عنصر ثالث وإدخال معنى آخر (غير معنى الهيئة ومعنى الْمَادَّة) في مفاد صيغة النَّهْي، فمثلاً لو قلنا بما يقوله القدماء من أن قوله: «لا تشرب» يَدُلّ على نفس ما يَدُلّ عليه قوله: «اشرب» (وهو الطّلب)، إذن نسأل: هل أن الطّلب، وبتعبير أدق: النِّسْبَة الطَّلبيَّة الَّتي تَدُلّ عليها هيئة «لا تشرب» متعلّقة بمفاد الْمَادَّة (أي: بالشرب)؟

 هذا خُلف المقصود من النَّهْي؛ لأَنَّ المقصود منه ليس هو التَّحريك نحو الفعل، بل الإبعاد عنه، أم أن هذه النِّسْبَة الطَّلبيَّة متعلّقة بترك الشُّرْب؟

 إذن، فهذا «التَّرك» عنصر ثالث أدخلناه في البين، وهو ليس مدلولاً لِلْمَادَّة؛ لأَنَّ مدلولها الطَّبيعة، وهي وإن كانت لم يؤخذ فيها الوجود ولا العدم، إلاَّ أنَّها إنّما تصلح أن تكون مرآة لما يوجد من أفرادها، لا لتركها. إذن، كيف يؤخذ «التَّرك» في مدلول الْمَادَّة؟

 فهذه مشكلة تنشأ من محاولة القدماء إرجاع مدلول صيغة النَّهْي إلى مدلول صيغة الأمر، وحينئِذٍ فَهُمْ بين أَمْرَيْنِ: إما أن يلتزموا بوجود دالّ ثالث مستقلّ (غير الْمَادَّة والهيئة) في صيغة النَّهْي يَدُلّ على هذا العنصر الغريب عن الْمَادَّة وَالْهَيْئَة (أي: يَدُلّ على التَّرك)، وهذا خلف المفروض، وإما أن يأخذوا هذا العنصر (أعني التَّرك) في مدلول أحد الدالّين إما الْمَادَّة أو الهيئة، فإن أُخِذ في مدلول الْمَادَّة، أي: في مدلول «الشُّرْب» في المثال، إما بدعوى أن الشُّرْب قد استعمل في ترك الشُّرْب، أو بدعوى أَنَّهُ فانٍ في تركه. فكلاهما واضح البطلان.

أمَّا الأوّل: فَلأَنَّهُ لا علقة أبداً بين لفظ «الشُّرْب» وبين ترك الشُّرْب، حتّى بصورة غير مباشرة كما في المجازات، فلا يصحّ استعمال هذا اللَّفظ فيه حتّى مجازاً ومع العناية، فلا يمكن القول بأَنَّهُ قد استعمل فيه هنا بنحو المجاز؛ فَإِنَّ الوجدان اللُّغَوِيّ وَالْعُرْفِيّ يقضي بعدم وجود أي تجوّز وعناية في صيغة النَّهْي مثل «لا تشرب»، كما لا تجوّز ولا عناية في صيغة الأمر، مثل «اشرب»، فكما لا نحسّ بِالتَّجَوُّزِ في مادّة الشُّرْب في صيغة الأمر، كذلك لا نحس به فيها في النَّهْي.

وأمّا الثَّانِي: إن أخذ «التَّرك» في مدلول الهيئة، بأن يفرض دلالة الهيئة على نفس التَّرك إضافةً إلى النِّسْبَة الطَّلبيَّة بين التَّرك والمخاطب، فهو أيضاً غير عُرْفِيّ، بل هو واضح البطلان، لكونه على خلاف الأوضاع اللُّغَوِيَّة؛ فَإِنَّ الوضع اللغوي للهيئة عبارة عن وضعه لمعنى حرفي نسبي، بينما التَّرك معنى اسمي، فلا بُدَّ من أن يقع طرفاً لِلنِّسْبَةِ، ودلالة الهيئة في أمثال المقام على النِّسْبَة وطرفها معاً، أي: على معنى حرفي ومعنى اسمي أمر لا نقبله؛ إذ لم نعهد أن يكون مثل هذه الهيئة دالاًّ على النِّسْبَة وطرفها، ولا برهان عليه.

 مضافاً إلى أَنَّنَا حتّى لو تنزَّلنا عن هذا وقلنا: إن الهيئة هنا تَدُلّ على النِّسْبَة وطرفها، رغم ذلك تبقى مشكلة أخرى وهي عبارة عن مشكلة الدَّالّ على نسبة أخرى بين «التَّرك» (الَّذي هو المعنى الاِسْمِيّ وهو طرف النِّسْبَة الطَّلبيَّة الثابتة بين التَّرك والمخاطب وقد فرضنا أنَّ الدَّالّ عليه الهيئة) وبين «الفعل» (أي: الْمَادَّة وَالطَّبِيعَة) وهي نسبة الإضافة؛ فَإِنَّ التَّرك الَّذي هو طرف النِّسْبَة الطَّلبيَّة ليس عبارة عن مطلق التَّرك من دون إضافة إلى شيء؛ أي: ليس مطلوب المولى النَّاهِي الَّذي قد طلب التَّرك عبارة عن أي تركٍ كان، بل مطلوبه هو ترك الفعل والمادة (أي: ترك الشُّرْب في المثال).

 فهناك إذن نسبة إضافة للترك إلى الفعل، فيأتي هذا السؤال وهو أَنَّهُ ما هو الدَّالّ على هذه النِّسْبَة الثَّانية الناقصة؟

 من الواضح أَنَّهُ لا دالّ ثالث في قوله مثلاً: «لا تشرب» غير الْمَادَّة وَالْهَيْئَة، فهل أن الْمَادَّة تَدُلّ على هذه النِّسْبَة الناقصة أم أن الهيئة تَدُلّ عليها؟ مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الْمَادَّة لا تَدُلّ عليها.

 وأمّا دلالة الهيئة عليها، فمعناها دلالة الهيئة إذن على ثلاثة أشياء: «التَّرك» و«النِّسْبَة الطَّلبيَّة الثَّابِتَة بين التَّرك والمخاطب» و«النِّسْبَة الناقصة (نسبة الإضافة) الثَّابِتَة بين التَّرْك والفعل» فيصبح الأمر أغرب وأبعد.

الثَّانِي: أن صيغة النَّهْي قد تَتَعَلَّقُ بمادّة التَّرْك، فيقال مثلاً: «لا تترك الصَّلاة»، ولا يحس العرف بأيّ نوع من الحزازة في الاستعمال المذكور، وهذا إنّما يستقيم على تفسيرنا لصيغة النَّهْي؛ فإِنَّهُ بناءًا على أنَّها تَدُلّ على الزَّجْر عن الشَّيْء، يكون معناها في هذا الاستعمال النِّسْبَة الزَّجْرِيَّة الثَّابِتَة بين الزَّجْر وبين التَّرْك، فهو يزجر عن التَّرْك، وأمّا على تفسيرها بطلب التَّرْك فيكون معناها هنا طلب تركِ التَّرْك، وهذا المعنى فيه نوع حزازة عند العرف، بينما ليس في مثل قولنا: «لا تترك..» شيء من الحزازة.

الثَّالث: أَنَّنَا نَحُسُّ بأن صيغة النَّهْي موازية في المعنى لمادّة النَّهْي، غاية الأمر أن هذه في عالم الحروف، وتلك في عالم الأسماء، ونرى أن مادّة النَّهْي تتعدّى بـ«عن»، فيقال: «نهى عن كذا..». فإذا فَسَّرْنّا صيغة النَّهْي بِالزَّجْر عن الفعل، يحصل التَّطَابُق الكامل بين صيغة النَّهْي ومادّته؛ إذ الزَّجْر أيضاً يتعدى بـ«عن» فيقال: «زَجَره عن كذا..» كما يَتَعَدّىٰ بها النَّهْي.

 وأمّا لو فَسَّرْنّاها بطلب التَّرْك، فلا يحصل التَّطَابُق الكامل بينهما؛ إذ أن مادّة النَّهْي تَتَعَدَّىٰ بـ«عن»، فيقال مثلاً: «أنهاك عن الكذب»، بينما الهيئة (على هذا التَّفْسِير) لا تَتَعَدَّىٰ بحرف الجر أصلاً، بل تَتَعَدَّىٰ بنفسها؛ إذ معنى قوله: «لا تكذب» هو «أطلب منك ترك الكذب»، فلا تتطابق الْمَادَّة وَالْهَيْئَة.

 هذا تمام الكلام في الجهة الثَّانية وهي البحث عن دلالة صيغة النَّهْي ومفادها، وقد اتَّضَحَ لدينا أن مفادها ليس هو اعتبار الحرمان من الفعل، ولا هو طلب ترك الفعل، بل مفادها عبارة عن الزَّجْر عن الفعل بنحو المعنى الْحَرْفِيّ، أي: النِّسْبَة الزَّجْرِيَّة.