الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

30/10/09

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: دلالة النَّهْي/البحوث اللُّغَوِيَّة الاكتشافية/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 بِالنِّسْبَةِ إلى اعتراض السيد الخوئي رحمه الله عَلَىٰ الرَّأْيِ الْمَشْهُورِ اتَّضَحَ لنا أن هذا الاعتراض اعتراض مبنائي مبتنٍ على مبناه هو رحمه الله فِي باب الوضع وما يتفرع على ذاك المبنى من كون الدِّلاَلَة تَصْدِيقِيَّة. أما على مبنى القوم فِي باب الوضع بأن الدِّلاَلَة الوضعيَّة تَصَوُّرِيَّة وليست وضعيَّة فلا يُسجَّل اعتراضه رحمه الله.

 يبقى أصل رأيه رحمه الله الَّذي أبداه رَحِمَهُ اللَهُ حول مفاد صيغة الأمر وصيغة النَّهْي، وهو أن مفاد صيغة الأمر عبارة عن اعتبار الفعل في ذمّة المُكَلَّف وعهدته، ومفاد النَّهْي عبارة عن اعتبار حرمان المُكَلَّف من الفعل، فهذا الرَّأْي أيضاً فرع عن مبناه رَحِمَهُ اللَهُ في باب الْوَضْع وما يتفرّع عليه من كون الدِّلالة الوضعيَّة هي الدِّلالة التَّصديقيَّة الكاشفة عن وجود المعنى في نفس الْمُتِكَلِّم وإرادته له واقعاً؛ وذلك لأَنَّ دلالة الأمر وَالنَّهْي على اعتبار الفعل أو الحرمان من الفعل لا يعني سوى كشف الأمر وَالنَّهْي عن وجود الاعتبار المذكور في نفس المولى وإرادته له واقعاً.

 إذن، فرأيه رَحِمَهُ اللَهُ مبنيّ على ذاك المبنى، فإِنَّه حيث بَنى على ذاك المبنى، صار هنا في مقام التفتيش عن المدلول التَّصديقي للأمر وَالنَّهْي، فقال: إن صيغة الأمر وضعت لإبراز اعتبار الفعل في العهدة، وصيغة النَّهْي وضعت لإبراز اعتبار الحرمان منه.

 أما نحن فقد ناقشنا هذا المبنى بتفصيل في باب الوضع، فلا نتعرّض له هنا، وإنَّما نقتصر في المقام على القول بأن اعتبار الفعل في ذمّة المُكَلَّف، أو اعتبار حرمانه منه، وإن كان يفهم أحياناً بِالسِّيَاقِ والمناسبات وظهور حال الْمُتِكَلِّم، إلاَّ أَنَّهُ ليس هو المدلول الوضعيّ للأمر وَالنَّهْي، وذلك لقرينتين:

الأولى: أن المدلول الوضعيّ للأمر وَالنَّهْي أبسط وأوضح تصوُّراً وأقدم بكثير من مفهوم «الاعتبار» و«العهدة» أو «الذِّمَّة» وما إلى ذلك من المفاهيم الدَّقِيقَة المعقَّدة وَالَّتِي هي مُتِأَخِّرَة زَمَنِيّاً عن وضع الأمر وَالنَّهْي، ولم يكن يفهما الإنسان البدائي، بينما كان هذا الإنسان يفهم الأمر وَالنَّهْي على أوضح ما يكون.

الثَّانية: أن صيغة الأمر وصيغة النَّهْي تُستعملان في كثيرٍ من الأحيان (بنفش معناهما الوضعيّ اللغوي) في موارد لا تنطبق عليها هذه المفاهيم (أي: مفهوم الاعتبار والعهدة والذِّمَّة)، وذلك كما في الطّلب من الله تعالى، كما أن صيغة الأمر تصدر ممّن يملك اعتبار الفعل على عهدة المخاطب، كالمولى العالي، فَإِنَّهَا كذلك تصدر ممّن لا يملك اعتبار شيء أو جعله في عهدة المخاطب، كالعبد الَّذي يخاطب الله تعالى ويقول: «ربنا اغفر لنا» و«ارحمنا» و«عافنا» و«اعف عنا» وما إلى ذلك.

 وكما أن صيغة النَّهْي تصدر ممَّن يملك اعتبار حرمان المخاطَب من الفعل، كالمولى العالي؛ فَإِنَّهَا كذلك تصدر ممَّن لا يملك ذلك، كالعبد الَّذي يخاطب الله تعالى ويقول: «ربنا لا تؤاخذنا»، «ربنا لا تكلنا إلى أنفسنا»، «ربنا لا تسلط علينا من لا يرحمنا» وما إلى ذلك.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ صيغة الأمر وصيغة النَّهْي تُستعملان في هذه الموارد في نفس معناهما اللغوي الَّذي تُستعملان فيه في سائر الموارد، بينما لا يصحّ أن يقال في هذه الموارد: إن مفادهما عبارة عن اعتبار العبد الفعلَ في ذمّة الله وعهدته تعالى، أو اعتباره حرمان الله تعالى عن الفعل.

 هذا كُلّه عن النُّقْطَة المختلف فيها بين أصحاب التَّيَّار الحديث (بين الرَّأْي المشهور وَالسَّائِد بينهم وبين رأي السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رَحِمَهُ اللَهُ) وقد اتَّضَحَ لنا أن اعتراضه رَحِمَهُ اللَهُ عليهم ليس بصحيح؛ وأن رأيه رَحِمَهُ اللَهُ في مفاد صيغة الأمر ومفاد صيغة النَّهْي أيضاً غير صحيح.

 وأمّا النُّقْطَة المشتركة بينهم القائلة بأنّ متعلّق الأمر وَالنَّهْي شيء واحد وهو الفعل، خلافاً لِلْقُدَامَىٰ مِنَ الأُصُولِيِّينَ القائلين بأنّ متعلّق الأمر هو الفعل، وَمُتَعَلّق النَّهْي ترك الفعل. فقد اِسْتَدَلَّ عليها السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رَحِمَهُ اللَهُ بما عليه الْعَدْلِيَّة من تَبَعِيَّة الأحكام للمصالح والمفاسد الثابتة في متعلقاتها؛ فإِنَّه بناءًا على هذا المسلك الَّذي هو الصَّحِيح يكون مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الأمر وَالنَّهْي يَتَعَلَّقَانِ بالفعل. فكما يَتَعَلَّقُ الأمر بالفعل، لوجود مصلحة لزوميّة فيه، كذلك النَّهْي يتعلّق بالفعل، لوجود مفسدة لزوميّة فيه، ولا يتعلّق بترك الفعل؛ إذ ليس في التَّرك مصلحة، وإنَّما مصبّ المصلحة والمفسدة نفس الفعل، فيكون نفس الفعل مركز الأمر وَالنَّهْي ومصبّهما([1] ).

أقول: هذا الدَّلِيل أيضاً غير صحيح، كما أفاده سَيِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِيد رَحِمَهُ اللَهُ؛ وذلك:

أوَّلاً: لأَنَّ البحث هنا إنّما هو عن معنى الأمر وَالنَّهْي لغةً قبل فرض إسلامٍ أو عَدْلِيَّة أو أشاعرةٍ، فالمبحوث عنه في المقام إنّما هو الوضع والمدلول اللغوي الثَّابت قبل تكوّن مثل هذه المسالك الْفَلْسَفِيَّة أو الْكَلاَمِيَّة لدى علماء المسلمين، بل قبل مجيء الإسلام، فلا معنى للاستدلال على مدلولٍ لُغَوِيٍّ وضعيّ بمذهب كلاميٍّ لفرقةٍ من المسلمين ظَهَر مؤخّراً؛ فإنَّنَا نفترض في هذا البحث آمِراً وَنَاهِياً لا يتبع المصالح والمفاسد في أوامره ونواهيه أصلاً، كما إذا كان يأمر وينهى ظلماً وَجَوْراً وَتَضْيِيقاً على النَّاس مثلاً، فما هو مفاد أمره؟ وما هو مفاد نهيه؟ من حيث اللُّغَة، هل أن مفاد نهيه هو طلب ترك الفعل؟ أم هو الزَّجْر عن الفعل، أم هو اعتبار حرمان المأمور من الفعل؟ هذا بحث لا يرتبط أبداً بوجهة نظر الْعَدْلِيَّة.

ثانياً: لأَنَّهُ حتّى على مذهب الْعَدْلِيَّة القائل بِتَبَعِيَّة الأحكام للمصالح والمفاسد لا يتعيَّن المصير إلى ما ذهب رَحِمَهُ اللَهُ إليه من كون مفاد صيغة النَّهْي عبارة عن اعتبار حرمان المُكَلَّف من الفعل؛ فَإِنَّ مسلك الْعَدْلِيَّة لا يقتضي أكثر من كون المفسدة في الفعل وبتبعها يصدر النَّهْي من الشَّارع، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ المولى لا يريد من نهيه هذا سوى إبعاد المُكَلَّف عن المفسدة الموجودة في الفعل، فهو يطلب الفرار عنها إلى النَّقِيض، وهذا كما يعقل بِالزَّجْر عن الفعل، أو باعتبار حرمان المُكَلَّف من المُكَلَّف، كذلك يعقل بطلب ترك الفعل.

 نعم كون مفاد النَّهْي عبارة عن الزَّجْر عن الفعل أو اعتبار الحرمان منه أنسب، باعتبار أن النَّهْي تابع للمفسدة، والمفسدة كامنة في الفعل، فالمناسب أن يكون النَّهْي أيضاً متعلّقاً بالفعل لا بتركه، لكن الأَنْسَبِيَّة ليست دَلِيلاً على الوضع اللغوي وعلى أن الواضع قد لاحظ هذه الأَنْسَبِيَّة وأخذها بعين الاعتبار حين الوضع ولم يغفل أو يتغافل عنها، ووضع (على وضوئها) صيغة النَّهْي لِلزَّجْر عن الفعل أو لاعتبار الحرمان منه، ولم يضعها لطلب ترك الفعل كما هو واضح.

 هذا بِالنِّسْبَةِ إلى نقاشنا مع السيد الخوئي، ويبقى الرَّأْي الصَّحِيح الَّذي سوف نذكره غداً إن شاء الله تعالى.

[1] - محاضرات في أصول الفقه: ج4، ص 87-88.