46/06/09
الموضوع: الأصول العملية / دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء / المانع الثالث عن جريان البراءة في المقام وهو العلم بالغرض
قلنا إنّ المانع الثالث من الموانع التي تطرح عن جريان البراءة عند الشكّ في الأقلّ والأكثر عبارة عن العلم بالغرض وبالتالي تحوّل الشكّ في عالم الغرض إلى الشكّ في التحصيل، وعند الشكّ في المحصِّل لا تجري البراءة، بل يجري الاشتغال إلى حدٍّ يحصل له اليقين بالتحصيل.
وأستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه يجيب عن هذا المانع الثالث بوجهين لا زلنا في الوجه الأوّل، وهو أنّا نمنع عن العلم بالغرض بالنحو الذي يكون مرجعه إلى الشكّ في المحصّل؛ إذ لعلّ الغرض مردّدٌ أيضاً بين الأقلّ والأكثر، وإذا كان حال الغرض كحال الفعل من حيث كونه مردّداً بين الأقلّ والأكثر فكما تجري البراءة عن الفعل الزائد المحتمل كذلك تجري عن الغرض الزائد المحتمل.
كيف يحصل الشكّ بين الأقلّ والأكثر في عالم الغرض؟ أليس الغرض وحدانيّاً دائماً [بأنّ] لكلّ وجوب غرضاً واحداً؟ فلقائل أن يقول إنّ الغرض ليس بين الأقلّ والأكثر فكيف نحتمل أن يكون دائراً بين الأقلّ والأكثر؟
فحاول هنا أستاذنا الشهيد أن يحقّق مسألة أنّه هل يحصل الشكّ في الأقلّ والأكثر في عالم الأغراض أو لا، على خمس فرضيّات.
الفرضيّة الأولى ما يستفاد من كلمات المحقّق النائينيّ رضوان الله تعالى عليه حيث قلنا إنّه يقول بعدم وجوب تحصيل الغرض في ما نحن فيه؛ لأنّه خارج عن قدرة المكلّف فإذا لم يجب تحصيله لا يتحوّل الشكّ إلى الشكّ في المحصّل؛ لأنّ ذلك القائل كان يقول بوجوب تحصيل الغرض في عالم الأغراض التي يجب تحصيلها فيتحوّل الشكّ إلى الشكّ في المحصّل، فلا تجري البراءة، ولكنّ المحقّق النائينيّ يقول لا يجب تحصيل الغرض في ما نحن فيه؛ لأنّ تحصيله متوقّف على مقدّمات غير داخلة في قدرة المكلّف. مثل تحصيل غرض الصلاة، ففِعلُنا مقدّمةٌ إعداديّة [بالنسبة إلى الغرض من الصلاة] أي إحدى المقدّمات الدخيلة في تحصيله، أمّا باقي المقدّمات فما هي؟ حاصلة أو لا؟ فلا نعلم، فتحصيل الغرض غير مقدور لنا حتّى يتحوّل إلى الشكّ في المحصّل. هذا خلاصة بيان المحقّق النائينيّ رضوان الله تعالى عليه.
وقد أورد عليه السيد الخوئيّ رضوان الله تعالى عليه ويقول إنّ الغرض الذي لا يمكننا تحصيله إنّما هو الغرض الأقصى ونحن نقول بوجوب تحصيل الغرض الأدنى؛ لأنّ مقدار ما يحصل من الغرض بفعل المكلّف بالمقدار الطبيعيّ الذي يحصل بفعل المكلّف نحن نسمّيه بالغرض الأدنى. أمّا ما يحصل بفعل المكلّف مع المقدّمات الأخرى التي هي غير معروفة لدى المكلّف فهو الغرض الكامل والأقصى.
فيقول يكفينا أنّا قادرون على تحصيل الغرض الأدنى، فإنّ المقدّمة الإعداديّة تحصّل شيئاً ما. فتَحصُّلُ الإعداد هو الغرض الأدنى لإعداد الغرض الأقصى، فنفس الإعداد للغرض الأقصى غرض. والمكلّف ما دام قادراً على تحصيله فهذا الغرض الأدنى يأتي فيه كلام صاحب هذا المانع الثالث من أنّه يتحوّل إلى الشكّ في المحصّل.
ولأستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه ردّ على كلام السيد الخوئيّ، وحاصل الردّ أنّ الغرض الإعداديّ الأدنى قد لا يكون غرضاً وحدانيّاً يترتّب على مجموع الأجزاء المردّدة بين الأقلّ والأكثر. وإنّما قد يكون أيضاً مردّداً بين الأقلّ والأكثر. بطريقة أن يكون بكلّ جزء غرض.
[فنسأل بأنّ] من قال لك إنّ لمجموع تلك الأجزاء للواجب الارتباطيّ غرضاً واحداً؟ لعلّ هذه الأجزاء لكلّ واحد منها غرض، فالغرض المترتّب على الركوع غير الغرض المترتّب على السجود وغير الغرض المترتّب على التكبير وهكذا. فقد يكون بهذا النحو، وما دام يوجد احتمال ذلك فإذا شككنا في تسعة أجزاء أو عشرة، فهذا يعني أنّ الغرض أيضاً يصير فيه الأقلّ والأكثر، فنشكّ أنّ الغرض المترتّب هي تسعة أغراض أو عشرة، وبالتالي لا يتحوّل إلى الشكّ في المحصّل وإنّما في الأقلّ والأكثر حتّى في عالم الغرض. فكما تجري البراءة في عالم الفعل عن الجزء المشكوك تجري في عالم الغرض أيضاً عن الجزء المشكوك.
[نعم] إذا كان كذلك (أي كان الغرض لمجموع الأجزاء غرضاً واحداً يحصل بإتيان جميع الأجزاء) فإذا شككنا أنّ الأجزاء الواجبة تسعة أو عشرة يحصل الشكّ في المحصّل والشكّ في المحصّل لا تجري فيه البراءة، بل الاحتياط.
إذاً فكلام السيد الخوئيّ من تحوّل الغرض الأدنى أيضاً إلى الشكّ في المحصّل غير صحيح؛ لاحتمال أن يكون هذا الغرض الأدنى متجزئاً ومردّداً بين الأقلّ والأكثر، فتجري البراءة.
ثمّ يذكر أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه نقطة ضعف على كلام المحقّق النائينيّ؛ لأنّا وافقنا لحدّ الآن معه في عدم تحوّل الشكّ إلى الشكّ في المحصّل. [وكان دليله] أنّه لا يجب تحصيل الغرض أصلاً حتّى يتحوّل [شكّنا إلى الشكّ في المحصّل]، وأستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه توصّل أيضاً إلى نفس النتيجة من حيث أنّه حتّى إذا كان الشكّ في المحصّل فهذا المحصّل أيضاً فيه دورانٌ بين الأقلّ والأكثر.
فحتّى إذا تكلّمنا في عالم الأغراض وأمكن تحصيل الغرض بالمرتبة الأدنى والمقدّمة الإعداديّة مع ذلك قد يكون هذا على نحو الأقلّ والأكثر، فالنتيجة أيضاً جريان البراءة، فالنتيجتان موحّدتان عند المحقّق النائينيّ وأستاذنا الشهيد.
ولكن يقول إنّ في كلام المحقّق النائينيّ نقطة ضعف يبدو هو أنّه جعل الميزان في جريان البراءة وعدمه القدرة وعدمها على تحصيل الغرض، فقال المحقّق النائينيّ إذا كانت النسبة بين الغرض وفعل المكلّف كنسبة المعلول إلى العلّة فهو قادر على تحصيل الغرض لأنّ العلّة واحدة والمعلول واحد ويستدعي أن يحقّق العلّة فيتحقّق المعلول. وبالتالي يتحوّل الغرض إلى الشكّ في المحصّل فلا تجري البراءة.
ولكن إذا كانت النسبةُ نسبةَ الشيء إلى مقدّمته الإعداديّة ولا يعرف المقدّمات الأخرى، فلا يكون شكّاً في المحصّل، فلا يجب تحصيل الغرض، وبالتالي لا يجب الاحتياط وتجري البراءة. ونقطة ضعفه جعله الميزانَ القدرةَ على تحصيل الغرض أو عدمها، بينما نحن قلنا ليس الميزان القدرة وعدمها وإنّما الميزان أنّ الغرض هل يمكن تفكيكه إلى عدّة أغراض لكلّ جزء من الفعل غرض أو لا يمكن؟ ونحن قلنا من المحتمل تفكيك الغرض إلى عدّة أجزاء حتّى وإن أمكننا تحصيل الغرض واحتملنا أنّه مجزّء إلى عدّة أجزاء يصير أيضاً شكّاً بين الأقلّ والأكثر في الغرض وتجري البراءة.
والنتيجة وإن كان واحدة عند المحقّق النائينيّ وأستاذنا الشهيد، ولكن طريقة التوصّل متفاوت.