الأستاذ السيد علي‌اکبر الحائري
بحث الأصول

46/06/05

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: الأصول العملية / دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء / المانع الثالث عن جريان البراءة في المقام وهو العلم بالغرض

قلنا قد يدّعى وجود موانع عن جريان البراءة عن الجزء الزائد في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، وكان المانع الأوّل هو العلم الإجماليّ وقد بحثناه. والمانع الثاني هو العلم التفصيليّ بالأقلّ وهذا ما بحثناه أيضاً حيث قلنا إنّا لسنا مسؤولين عقلاً عن إسقاط التكليف عند تماميّة شرائط التنجيز وإنّما مسؤولون عن إتيان متعلّق التكليف المنجّز سواء يحصل به إسقاط التكليف أو لا، وإن كان يوجد التلازم غالباً بينه وبين سقوط التكليف حينئذٍ. وبالعلم التفصيليّ يتنجّز مقدار الأقلّ فيؤدّيه ولا يلزم عليه عقلاً أن يأتي بالجزء الزائد لأجل إحراز إسقاط التكليف. هذا الجواب والردّ على المانع الثاني.

1- المانع الثالث عن جريان البراءة في المقام وهو العلم بالغرض

والآن نأتي إلى المانع الثالث وهو العلم بالغرض بدعوى أنّه إذا أدّى مقدار الأقلّ واكتفى فلا زال عنده علم بغرض التكليف والملاك والمصلحة، والعلم بالغرض يدعوه إلى أن لا يكتفي بذلك ولا بدّ عليه أن يأتي بالجزء الزائد المحتمل تلبيةً لنداء العلم بالغرض.

أمّا توضيح كيفيّة هذه الدعوى فضمن ثلاث مقدّمات:

المقدّمة الأولى: أنّ الشكّ في المحصّل مجرى للاشتغال لا البراءة وسواء فيه عالَم متعلّق التكليف وعالم الأغراض والملاكات.

وتوضيحه أنّه لو وجب واجب على المكلّف فشكّ في كيفيّة تحصيل هذا الواجب [فعليه أن يحصل اليقين بتحصيله ولا يمكنه أن يجري البراءةَ في كيفيّة تحصيل الواجب]، كما إذا وجب عليه قتل كافر، وهذا الكافر إذا أطلق عليه رصاص واحد فلا يُعلم قتله به، فلا بدّ له أن يطلق عليه حتّى يحصل له اليقين بتحصيل الواجب. هذا مثال للشكّ في المحصّل، فلا يجري البراءة فيه، بل هو مجرى الاشتغال.

المقدّمة الثانية: أنّه وإن لم يكن الشكّ [في ما نحن فيه] بالنسبة إلى متعلّق التكليف شكّاً في المحصّل بل في التكليف الزائد، ولكن إذا لاحظنا عالم الأغراض أي عالم الملاكات والمصالح وجدنا أنّه يكون الشكّ بالنسبة إلى هذا العالم شكّاً في محصّل الغرض لا في الغرض الزائد، وذلك لأنّ الغرض أمر وحدانيّ وليس فيه الأقلّ والأكثر، فهذا الغرض الوحدانيّ لكونه أمراً وحدانيّاً يقع الشكّ في تحصيله بأنّ هذا الغرض والمصلحة هل تحصل بتسعة أجزاء أو لا بدّ من إضافة الجزء العاشر حتّى يحصل؟

فخلاصة هذه المقدّمة أنّ الشكّ في عالم الغرض ليس شكّاً بين الأقلّ والأكثر بل هو من الشكّ في المحصّل، وقد قلنا في المقدمة الأولى أنّه يستدعي الاحتياط ولا تجري البراءة.

المقدّمة الثالثة: يؤكّد فيها أنّه لا فرق في ما ذكرنا في المقدّمتين بين عالم التكليف وعالم الأغراض، فكما أنّه في عالم التكليف متى ما كان الشكّ في المحصّل لا تجري البراءة فكذلك في عالم الأغراض، بل يجري الاشتغال. ومثال «أنّ قتل الكافر بمَ يحصل؟» هذا في عالم التكليف، والآن نقول في هذه المقدّمة بعدم الفرق بين ما إذا كان الشكّ في المحصّل في عالم التكليف أو في عالم الأغراض والمصالح.

لو ضممنا هذه المقدّمات بعضها إلى بعض فنستنتج أنّه عند الشكّ بين الأقلّ والأكثر لأجل تلبية الغرض الوحدانيّ المعلوم لا بدّ علينا الاحتياط ولا تجري البراءة.

أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه يناقش هذا البيان بوجهين الوجه الأوّل منه مفصّل ومطوّل، خلاصته أنّا ننكر العلم بالملاك [الوحدانيّ] فلعلّ الملاك ليس وحدانيّاً بل هو أيضاً الأقلّ والأكثر فكما نجري البراءة في عالم التكليف عن الجزء الزائد المحتمل فكذلك نجريها عن الجزء الزائد المحتمل في عالم الأغراض.

فمن المحتمل أن يكون الغرض أيضاً حاله حال متعلّق الوجوب، فكما يكون الشكّ فيه في أمر زائد فكذلك في عالم الأغراض قد يكون الشكّ في الجزء الزائد من الغرض (أي الغرض أيضاً يدور أمره بين الأقلّ والأكثر) فنجري البراءة عن الجزء الزائد منه.

فتماميّة بيان المذكور المشتملة على هذه المقدّمات يبتني على دعوى الجزم بكون الغرض أمراً وحدانيّاً منتهياً إلى الشكّ في التحصيل، أمّا إذا كان الغرض ليس إيّاه وإنّما هو الأقلّ والأكثر فإن كان هكذا لا ينتهي إلى أنّه لأجل إحراز التحصيل لا تجري البراءة وإنّما يجب الاشتغال. فهذا الكلام لو تمّ إنّما يتمّ في ما إذا قبلنا كون الغرض أمراً وحدانيّاً نشكّ في تحصيله ولكن ننكر هذا.

ولكن هذا التشكيك في أنّ الغرض هل هو أمر وحدانيّ أو هو أيضاً يدور أمره بين الأقلّ والأكثر فيمكن بيانه وتوضيحه ضمن خمس فرضيّات.