46/05/29
الموضوع: الأصول العملية / دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء / المانع الثاني لجريان البراءة وهو العلم التفصيلي بالأقلّ
قلنا إنّ الأمر الثاني الذي قد يدّعى مانعيّته عن جريان البراءة عند الشكّ في الأقلّ والأكثر هو العلم التفصيليّ بالأقلّ، فلو أدّى الأقلّ من دون الجزء الزائد فهو شاكّ في أنّه هل حقّق الامتثال وأسقط التكليف أو لا، فيجب عليه أن يحقّق الجزء الزائد ولا تجري البراءة بسبب هذا العلم التفصيليّ بالأقلّ، فالأقلّ لا يحرز إسقاطه إلّا بالإتيان بالأكثر؛ لأنّ هذا الأقلّ لا يحرز أنّه مطلوب وحده أو مع الجزء الزائد.
وقد أورد عليه أستاذنا الشهيد بإيرادين انتهينا عن الإيراد الأوّل.
وأمّا الإيراد الثاني هو ما ذكره جملة من الأصحاب منهم السيّد الخوئيّ من أنّ المكلّف ليس مسؤولاً عن إسقاط التكليف عند تماميّة شرائط تنجيزه بل هو مكلّف عن الإتيان بمتعلّق التكليف المنجّز سواء تمّ به إسقاط التكليف أو لا.
وقد يبدو هذا غريباً؛ فإنّه كيف يمكن أن يأتي بمتعلّق التكليف المنجّز وهو لا يعرف أنّه أسقط به التكليف الذي تمّ شرائط تنجيزه أو لا، لأنّ الإتيان بالتكليف المنجّز مستلزم غالباً لإسقاط ذلك التكليف، ولكن من المعقول أن يكون التكليف المنجّز أحد احتمالي التكليف، فإذا أدّى متعلّق التكليف المنجّز يشكّ في أنّ التكليف الواقعيّ هل كان هو الذي تنجّز عليه فسقط، أو كان شيئاً آخر فلم يسقط.
ومثاله – وهو غير موجود في التقرير – أنّه إذا كان التكليف مردّداً بين ألف وباء وتنجّز عليه أحدهما بخبر ثقة – بناء على حجّيّته في الموضوعات – أو بيّنة بأنّ التكليف المنجّز هو باء وليس ألفاً، فإذا أدّى باء فقد أدّى التكليف الذي تمّ تنجيزه بخبر ثقة فقد أتى بمتعلّق التكليف المنجّز ولكن هل تمّ بذلك إسقاط التكليف؟ فهو لا يدري، ويقول لستُ مسؤولاً عن إسقاط التكليف بل إنّما مسؤولٌ عن أداء متعلّق التكليف الذي تنجّز عليّ وهو باء، أمّا إسقاط التكليف به فلست مسؤولاً عنه.
فالأمر في ما نحن فيه بهذا النحو، فإنّه على فرض كون التكليف تعلّق بالأكثر فمتعلّق التكليف عبارة عن عشرة أجزاء وإذا تعلّق بالأقل فهو تسعة أجزاء، فأيّ منهما تنجّز بهذا العلم التفصيليّ؟
فقد تنجّز عليّ تسعة أجزاء؛ لأنّها واجبة وإن كنت لا أدري هي واجبة مع الجزء الزائد أو بدونه. فأنا أؤدّي ما تعلّق به التكليف المنجّزّ؛ لأنّ هذا العلم التفصيليّ قد نجّز عليّ تسعة أجزاء.
وأمّا ما قيل في وجه مانعيّة العلم التفصيليّ فهو لو صحّ إنّما يصحّ في ما إذا كانت مسؤوليّتي عبارة عن إسقاط التكليف بينما أنّ مسؤوليّتي ليست هو، بل هي عبارة عن الإتيان بمتعلّق التكليف المنجّز، وقد أتيت به وكفى سواء أسقط التكليف أو لا.
إن قلت: إنّنا لا نتكلّم عن عنوان إسقاط التكليف، وإنّما نتكلّم عن قبح مخالفة تكليف المولى وحسن امتثاله، ونقول: لا بُدَّ من تحصيل الجزم بالامتثال، وعدم مخالفة التكليف المعلوم، والوجوب الضمني بما أنّه مندكّ ضمن الوجوب الاستقلالي وجزء منه، وليس له وجود مستقلّ، كذلك يكون لا محالة امتثاله بامتثال الوجوب الاستقلاليّ ومندكّاً فيه.
فإنّ الوجوب الضمنيّ بما أنّه مندكّ ضمن الوجوب الاستقلالي وجزء منه، وليس له وجود مستقلّ، كذلك يكون لا محالة امتثاله بامتثال الوجوب الاستقلالي ومندكّاً فيه.
قلنا: بعد غضّ النظر عن أنّ الكلام – أعني: دعوى كون اندكاك الوجوب الضمني في الوجوب الاستقلالي موجباً لكون امتثاله عين امتثاله ومخالفته عين مخالفته – مجرّد تنميق من الكلام وشعر وخيال: إنّه بناءً على هذا البيان نقول: (إنّ الانحلال يقع في نفس المخالفة).
فيوضّح سيّدنا الأستاذ الردّ على الإشكال الذي هو من أساسه تنميق وشعر وخيال ويقول: هذا ليس حاله كحال أنّني ما أدري صلّيت أو لا، حتّى يجب عليّ عقلاً أن أصلّي، وإنّما هذا حاله حال ما إذا كان هناك نحوان من المخالفة، فنحو من المخالفة يحصل بعمل وكلا نحوي المخالفة يحصل بترك عمل وكلا نحوي المخالفة يحصلان بترك عمل آخر فعندئذٍ يبني على أنّ المخالفة حصلت أو ما حصلت؟
إذا ترك المخالفة التي هي على كلا الفرضين يتمّ في المخالفة ولم يتكرّر الآخر فـيكفي أن يترك هذه المخالفة؛ لأنّه ترك المخالفة فترك المخالفة تصير الترك القطعيّ، فهذه المخالفة بتركها يتمّ الموافقة، [أمّا] بترك الآخر فلا يعلم حصول الموافقة أو عدمه، فنحوان من المخالفة أمامه: نحو منها [على شكل] لو تركها لحصل اليقين بالطاعة والنحو الآخر منها [على شكل] لو تركها لم يحصل اليقين بالطاعة، وما نحن فيه من هذا القبيل بالنسبة إلى الوجوب المتعلّق بالأقلّ الذي يقال إنّه علم تفصيليّ.
فهذا العلم التفصيليّ يمكن مخالفة ما تنجّز به بنحوين، تارة يخالف بعدم الإتيان بأصل هذه التسعة أجزاء، وتارة يخالف بعدم الإتيان بالجزء الزائد، فلو لم يأت بالجزء الزائد فقط فهذه مخالفة احتماليّة، ولو ترك تسعة أجزاء فهذه مخالفة قطعيّة. فدار الأمر بين ترك المخالفة القطعيّة وترك المخالفة الاحتماليّة وهو يكفيه ترك المخالفة القطعيّة وبذلك يتمّ الطاعة.
فهذا الإشكال غير وارد وعبّر عنه أستاذنا الشهيد بأنّه تنميق وشعر وخيال.