46/05/28
الموضوع: الأصول العملية / دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء / المانع الثاني لجريان البراءة وهو العلم التفصيلي بالأقلّ
كان الكلام حول الموانع التي قد يدّعى وجودها عن جريان البراءة عن الجزء الزائد عند الشكّ في الأقلّ والأكثر. وكان المانع الأوّل عبارة عن العلم الإجماليّ وقد بحثناه مفصّلاً وانتهينا إلى أنّ هذا العلم الإجماليّ منحلّ بالعلم التفصيليّ بالأقلّ فلا يمكنه أن يكون مانعاً عن جريانها.
والمانع الثاني عبارة عن العلم التفصيليّ بالأقلّ، لأنّنا نعلم أنّ هذا الأقلّ سواء كان ضمن الأكثر أو مستقلّاً فهذا الأقلّ – وهو تسعة أجزاء في المثال – واجب بالعلم التفصيليّ، فنصبّ الكلام على تسعة أجزاء بالذات، فهي واجبة بالعلم التفصيليّ أي بقطع النظر عن العلم الإجماليّ بين أن يكون الواجب تسعة أجزاء أو عشرة أجزاء، فتسعة أجزاء واجبة سواء كان وجوبها في ضمن عشرة أجزاء أو مستقلّاً لا ضمنه، فهذا العلم التفصيليّ يقول القائل إنّه يكفي للمنع عن جريان البراءة.
وذكرنا في الدرس الماضي أنّ القائلين بمانعيّة هذا العلم التفصيليّ يقولون بأنّ هذا العلم التفصيليّ سواء كان بسبب دخول تسعة أجزاء ضمن عشرة أجزاء أو بسبب كون الواجب من أساسه تسعة لا أكثر فعلى كلا التقديرين هذا الوجوب معلوم، وإذا كان معلوماً فهو يمنع عن جريان البراءة بهذا العلم التفصيليّ [لأنّ الفراغ اليقينيّ من الاشتغال اليقينيّ الحاصل من هذا العلم التفصيليّ لا يحصل إلّا بالإتيان بالأكثر]. هذا بيان القول بأنّ العلم التفصيليّ يمنع عن جريانها بقطع النظر عن العلم الإجماليّ السابق الذكر.
وقد أورد أستاذنا الشهيد على ذلك إيرادين لا بأس بإعادة مختصر من الإيراد الأوّل.
كان الإيراد الأوّل عبارة عن أنّكم هل تدّعون أنّه بالإتيان بسعة أجزاء يتمّ السقوط الحقيقيّ لهذا الوجوب المعلوم بالعلم التفصيليّ أو تدّعون سقوط فاعليّة الوجوب؟ إذا تدّعون حصول السقوط الحقيقيّ بالقيام بتسعة أجزاء فلا نقبل نحن أساساً السقوط الحقيقيّ بالتكليف حتّى بالامتثال في موارد العلم التفصيليّ في غير مورد بحثنا بصورة عامّة. فإنّ عدم الامتثال ليس شرطاً في التكليف حتّى يسقط هذا التكليف بالامتثال؛ لأنّ شرطيّة شيء في التكليف منوطة بدخالته في الملاك، وعدم الامتثال ليس دخيلاً في الملاك حتّى يسقط بالامتثال؛ لأنّه سواء امتثلنا أو لم نمتثل فهذا الشيء مطلوب للمولى، ولا تزول المطلوبيّة بحصول الامتثال. فـ«حصول المحبوب أو عدم حصوله» شيء و«دخالة عدم امتثال المحبوب في حبّ الله» شيء آخر، فإنّ عدم امتثاله ليس دخيلاً فيه.
فإن كان المقصود السقوط الحقيقيّ للتكليف بالإتيان بهذا القليل فهذا يدخل ضمن ما يناقشه أساساً في كلّ تكليف من كون عدم التكليف ليس دخيلاً في حبّ الله لهذا الفعل حتّى يكون فعله مسقطاً حقيقيّاً لهذا التكليف.
وأمّا إذا قصد ما نكرّره دائماً من سقوط فاعليّة التكليف لا التكليف حقيقةً بل تسقط محرّكيّته بالامتثال، فنقول إنّ فاعليّة التكليف بالقدر المنوط بتسعة أجزاء تزول. فعندنا فاعليّة التكليف بالقدر المنوط بتسعة أجزاء، وفاعليّة التكليف بالقدر المنوط بعشرة أجزاء، فمجرّد أنّه لو لم تفعل الأكثر لا يحصل اليقين بامتثال الأقلّ؛ لأنّ هذا الأقلّ قد يكون منوطاً بالجزء الزائد فهذا الكلام لا يكفي لإدخال هذا البحث في قاعدة «أنّ الاشتغال اليقينيّ يستدعي الفراغ اليقينيّ» لأنّ هذا الأقلّ قد زالت فاعليّته بالقدر المنوط به. فلا يبقى تكليف الإنسان من زاوية هذا الأقلّ بعد ولا يبقى مسؤوليّته عن فراغ ذمّته فلا يدخل في قاعدة الاشتغال.
والإيراد الثاني هو أنّا لو سلّمنا ما ذكر في بيان القائل من أنّ العلم التفصيليّ يسقط هذا التكليف والاشتغال اليقينيّ يستدعي الفراغ اليقينيّ، لكن نورد عليه بأنّه يستدعي الفراغ اليقينيّ من أيّ زاوية؟ فإنّه يستدعي الفراغ اليقينيّ من زاوية تسعة أجزاء لا من زاوية عشرة أجزاء، الفراغ اليقينيّ في كلّ شيء بحسبه، ففي تسعة أجزاء بحسبها وفي العشرة بحسبها، وهنا نحتاج إلى الفراغ اليقينيّ بحسب تسعة أجزاء، وهذا يحصل بمجرّد القيام بتسعة أجزاء، فبه يحصل فاعليّة التكليف الحاصلة بتسعة أجزاء. نعم، عندنا احتمال فاعليّة التكليف من خلال عشرة أجزاء ولكنّه شيء آخر، وهو لا يعني أنّ تسعة أجزاء لم تزل فاعليّته، بل فاعليّته من زاويته قد انتهت حتّى لو سلّمنا أنّ فاعليّة التكيف أعمّ من كونه استقلالاً أو ضمن عشرة أجزاء. فيبقى هذا الاحتمال ولكنّه احتمال تجري فيه البراءة؛ لأنّه احتمال التكليف الزائد وهو مجرى البراءة.