الأستاذ السيد علي‌اکبر الحائري
بحث الأصول

46/05/24

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: الأصول العملية / دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء / المانع الثاني لجريان البراءة وهو العلم التفصيلي بالأقلّ

كان الكلام في الشكّ بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء [مثل ما] إذا شككنا في أنّ الواجب في الصلاة تسعة أجزاء أو عشرة، أو أنّ القنوت أو السورة من الصلاة أو لا. هذا أصل البحث. فهل تجري البراءة عن الجزء الزائد أو عن الصلاة المشتملة عليه؟

والمانع الأوّل الذي قد يتصوّر عن جريان البراءة هو العلم الإجماليّ بأنّه إمّا يجب تسعة أجزاء أو عشرة أجزاء؟

وقلنا إنّ هذا العلم الإجماليّ إنّما يكون مانعا في ما إذا كان علماً إجماليّاً بين المتباينين. أمّا إذا كان بين الأقلّ والأكثر حقيقة فالأقلّ معلوم بالعلم التفصيليّ والجزء الزائد يكون مشكوكاً بالشكّ البدويّ فتجري البراءة عنه. فلإثبات مانعيّة العلم الإجماليّ عن جريانها لا بدّ وأن نثبت التباين بين طرفي العلم الإجماليّ. وهذا ما بحثناه بالتفصيل. وقد انتهينا إلى عدم وجود التباين فهذا العلم الإجماليّ ليس علماً إجماليّاً صالحاً للمانعيّة عن البراءة.

1- المانع الثاني عن جريان البراءة في المقام: العلم التفصيليّ بالأقلّ

والآن يأتي الدور للمانع الثاني من الموانع التي قد يدّعى وجودها عن جريانها، وهي عبارة عن «العلم التفصيليّ بالأقلّ» وهو يستدعي الفراغ اليقينيّ، فنطبّق قاعدة «الاشتغال اليقينيّ يستدعي الفراغ اليقينيّ» فيقال: سواء كان التكليف متعلّقاً بالأقلّ أو بالأكثر فتسعة أجزاء واجبة ولا بدّ من الخروج عن عهدته، إذاً فتجري هذه القاعدة ولا يحصل الفراغ اليقينيّ عن التسعة إلّا لأداء العشرة؛ لأنّه إذا كانت التسعة مقيّدة بالجزء العاشر فدونه لا يحصل الفراغ عنه، هذه التسعة مردّدة بين كونها مقيّدة بالجزء العاشر أو غير مقيّدة به، فعلى أحد التقديرين يحصل الفراغ وعلى الآخر لا يحصل به. فلأجل الجزم بالفراغ عن التسعة لا بدّ أن نؤدّي العشرة؛ لأنّه مردّد بين ما قلنا.

فهذا العلم التفصيليّ بأنّ تسعة أجزاء واجبة على كلّ تقدير هو الذي يسبّب لنا تطبيق القاعدة، وإن كنّا لا نعرف أنّها مقيّدة بالجزء العاشر أو لا. فلا بدّ من إتيان عشرة أجزاء وبالتالي لا يمكن إجراء البراءة، لأنّه من موارد القاعدة لا من موارد الشكّ البدويّ بالنحو الذي تجري البراءة.

هذا توضيح بيان المانع الثاني.

وأستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه يورد إشكالات على هذا البيان.

1.1- الإشكال الأوّل على المانع الثاني

الإشكال الأوّل هو أنّه ماذا يقصد بأنّ الجزم بسقوط التكليف بالأقلّ منوط بالإتيان بالأكثر؟

فتارةً يقصد به المعنى الحقيقيّ للسقوط [وهو] سقوط نفس التكليف بالأقلّ، وتارة يقصد به سقوط فاعليّة التكليف لا فعليّته.

فبحثنا مرّات الفرق بين الفعليّة والفاعليّة، إذا كان التكليف مقيّداً بقيد فلا يسقط إلا بالإتيان ذلك القيد، فهنا عندما نقول إنّ هذا التكليف لا يحصل الجزم بسقوطه إلّا بإتيان الأقلّ ضمن الأكثر فبمعنى سقوطه حقيقة أو بمعنى سقوط فاعليّته؟ يعني أنّه لا يؤثّر على تحريك الإنسان فالتأثير انتهى بعد الامتثال بالنحو المطلوب، لا أنّ نفس التكليف يسقط، فمطلوبيّة هذا الفعل (حتى بعد الامتثال) لا يسقط؛ لأنّه منوطة بعالم الملاك.

فهو هل يقصد بـ«عدم سقوط التكليف إلّا ضمن الأكثر» أنّ التكليف بالأقلّ لا يسقط سقوطاً حقيقيّاً أو يقصد به أنّه لا يسقط فاعليّته لا سقوطه حقيقيّاً.

1.1.1- الفرض الأوّل: سقوط التكليف حقيقةً

أمّا إذا يقصد السقوط الحقيقيّ فنقسّمه أيضاً إلى الاحتمالين؛ لأنّ السقوط الحقيقيّ إمّا يكون بسقوط جعل التكليف أو بسقوط فعليّته.

أمّا إذا قصد سقوط الجعل: بأنّه لا يسقط الجعل إلّا بأن يؤدّي الأقلّ ضمن الأكثر حتّى يحصل الفراغ اليقينيّ، فإنّ هذا يكون مساوقاً للنسخ الحقيقيّ الذي يستلزم البداء على الله تبارك وتعالى وهو مستحيل عليه. فلا يمكن أن يكون هو المراد بالسقوط.

وأمّا إذا قصد سقوط المجعول (أي الفعليّة): [فهذا يتصوّر] في ما إذا آمنّا بأنّ التكليف مشروط بعدم الامتثال، فبالامتثال يحصل سقوط فعليّة المجعول، فإنّ كلّ حكم إذا كان مقيّداً بقيد فسقوط ذلك القيد يوجب سقوط المجعول، مثل أنّ الصلاة الواجبة مقيّدة باتّجاه القبلة فلو حقّقنا هذا القيد فصلّينا باتّجاهه تصبح هذه الصلاة مجعوله متحقّقاً ويسقط المجعول بهذا الامتثال، فإذا كان التكليف في ما نحن فيه مشروطاً بعدم الإتيان بالأقلّ ضمن الأكثر فلا بدّ من الإتيان بالأكثر حتّى يحقّق الشرط الدخيل في المجعول، ولكنّ عدم الامتثال ليس شرطاً في التكليف حتّى يسقط بالامتثال. إن كان عدم الامتثال شرطاً دخيلاً فلو لم يمتثل فلا يحصل الفعليّة ولكن كلّ تكليف لا يكون مشروطاً بعدم الامتثال؛ لأنّه ليس شرطيّة شيء جزافاً وإنّما شرطيّة كل شيء في التكليف منوط بارتباطه بالملاك وبأن يكون دخيلاً في الملاك والمصلحة وهما ليست – في كلّ تكليف – مشروطتين بالامتثال؛ لأنّه سواء امتثل أو لا فهذا الملاك قائم ولا يزول بالامتثال، فالمولى تعلّق حبّه وإرادته بهذا الملاك سواء امتثلنا به أو لا، حتّى إذا امتثلنا به فإرادته وحبّه لا ينسحبان وإن انتفى فاعليّته – كما سيأتي – لا فعليّته.

نعم قد يقول القائل إنّ فعليّة الحكم منوط بعدم الامتثال الثاني لا الأوّل، فهذا معقول ولكن ليس من الضروريّ أن يكون التكليف منوطاً ومشروطاً بعدم امتثال شيء جديد وهذا الشيء الجديد لو كان فهو يستدعي تكليفاً جديداً ولا دليل عليه.

فإذا قصد هذا فغير صحيح.

هذا ردّ على الجانب الأوّل ولا بدّ أن نتكلّم عن الجانب الثاني أي إذا قصد فاعليّة التكليف.