46/05/23
الموضوع: الأصول العملية / دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء / الاتّجاه الثاني لإبراز عنصر التباين
قلنا إنّ العلم الإجماليّ بوجوب تسعة أجزاء استقلاليّاً أو ضمن عشرة أجزاء بحيث يكون الواجب عشرة أجزاء، إذا قلنا بأنّه علم إجماليّ بين المتباينين فهو يمنع عن جريان البراءة، فلا بدّ من الاحتياط، ولكن إذا قلنا إنّه ليس بين المتباينين بل بين الأقلّ والأكثر فيكون الأقلّ معلوماً بالعلم التفصيليّ والأكثر مشكوكاً بالشكّ البدويّ، فتجري البراءة ولا يمنع هذا العلم الإجماليّ عن جريان البراءة. ولهذا دخلنا في بحث صياغة التباين بأنّه هل يمكن إثبات أنّه علم إجماليّ بين المتباينين أم لا؟ فقلنا إنّ لدعوى التباين اتّجاهان: الاتّجاه الأوّل الذي كان يقول إنّه تباين بلحاظ الحدّين حدّ التسعة وحدّ العشرة، هذا الاتّجاه أبطلناه سابقاً؛ لأنّ الحدّ لا يدخل في عهدة المكلّف.
وأمّا الاتّجاه الثاني كان بلحاظ ذات متعلّق الوجوب لا الحدّين، فالمتعلّق في فرض كونه تسعة أجزاء يدّعى أنّه مباين لمتعلّق الوجوب في فرض وجوب عشرة أجزاء. وهذا الاتّجاه لا بدّ من تقييمه تارة على مبنى من يقول بأنّ الإطلاق أمر عدميّ فهو عدم لحاظ القيد لا لحاظ عدم القيد. وتارة على مبنى من يقول بأنّه أمر وجوديّ فهو لحاظ عدم القيد كما هو رأي السيّد الخوئيّ رحمة الله عليه.
أمّا على الرأي الأوّل وهو الصحيح فمتعلّق الوجوب عندما نلحظ الواجب في عالم الذهن – لأنّ الوجوب له معروض بالذات ومعروض بالعرض، والأوّل في عالم الذهن والثاني في الخارج – تارة يكون أمره دائر بين نحوين: إمّا أنّه تسعة أجزاء مع تقيّدها بالجزء العاشر وتارة تسعة أجزاء بدون تقيّدها به، فهل هذا علم إجماليّ بين المتباينين؟
الجواب: لا، على مبنى من يقول بأنّ الإطلاق أمر عدمي، فيدور الأمر بين تسعة أجزاء مع لحاظ تقيّدها بالجزء العاشر وتارة بدون هذا التقيّد وهذا يعني أنّ إضافة التقيّد مشكوك ولا يدور الأمر في عالم المعروض بالذات والذهن بين نحوين من الإضافة: إمّا إضافة التقيّد وإمّا إضافة الشيء الآخر حتّى يصير التباين؛ لأنّه على أحد الفرضين فيه إضافة التقيّد وفي الفرض الآخر ليس إضافة شيء بديل عن ذكر الإضافة وإنّما عدم إضافة شيء؛ لأنّ الإطلاق أمر عدميّ على هذا المبنى فيدور الأمر بين إضافة شيء وعدم إضافته في عالم الذهن وهذا ما لا يجعلهما متباينين وإنّما هو نفس تسعة أجزاء تارة بإضافة تقيّدها وتارة بلا إضافة. فملاحظة تسعة أجزاء في عالم الذهن تبقى على هي، وإنّما الإضافة يدور أمرها بين الوجود والعدم.
ولو أردنا أن نمثّل بمثال عرفيّ نقول «وجود زيد في الدار» سواء كان العمرو موجوداً أيضاً أو لا، فزيد هو هو لا يختلف في حالة وجود عمرو أو حالة عدم وجوده. فكذلك في بحثنا، غاية الأمر أنّه ما ندري هل يوجد مع تصوّر تسعة أجزاء تصوّر تقيّدها بالجزء العاشر أو لا يوجد وهذا لا يجعلهما متباينين.
وأمّا على مبنى الآخر وهو للسيّد الخوئي القائل بأنّ الإطلاق أمر وجوديّ كالتقييد وهو لحاظ عدم القيد: فيدور الأمر في عالم الذهن والمعروض بالذات للوجوب بين لحاظين زائدين على لحاظ تسعة أجزاء إمّا لحاظ التقيّد أو لحاظ عدم التقيّد، فهنا قد يتوهّم أنّه على هذه المبنى يصبح العلم الإجماليّ بين المتباينين فهو يمنع عن جريان البراءة.
ولكن يقول أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه بأنّه يحصل هذا التباين حتّى على هذا المبنى، ولكن يحصل في عالم الذهن بما هو عالم الذهن. والصورة الذهنيّة التي تحصل في الذهن في عالم المعروض بالذات تحصل بما هي مرآة وإلّا فهي هذه الصورة الذهنيّة على كلا فرضيها ليس هي التي تدخل في عهدة المكلّف؛ لأنّ المكلّف لا يدخل في عهدته نفس هذه الصورة الذهنيّة وليس مسؤولاً عن تحقيق هذه الصورة الذهنيّة أو تلك الصورة الذهنيّة، إذاً فهذه الصورة الذهنيّة بما هي مرآة عن الخارج قد لوحظت في عالم الذهن وعندما نأخذ بعين الاعتبار أنّ هذه الصورة الذهنيّة سواء كانت عبارة عن تسعة أجزاء مع لحاظ تقيّدها بالجزء الآخر أو مع لحاظ عدمه فهذه الصورة إنّما أخذت في متعلّق الوجوب لا بما هي صورة ذهنيّة وإلّا دخلت هذه الصورة الذهنيّة في عهدة المكلّف [والحال] أنّه لا تدخل هذه الصورة الذهنيّة في عهدته، فهو ليس وظيفته أن يحقّق هذه الصورة الذهنيّة لا لنفسه ولا للمولى.
وإذا عرفنا أنّ هذه الصورة الذهنيّة إنّما لوحظت في المعروض بالذات للوجوب بما هي مرآة عن الخارج وجدنا بأنّ الصورة الذهنيّة للتقييد لها ما بإزاء في الخارج ولكنّ الصورة الذهنيّة للإطلاق ليس له ما بإزاء في الخارج حتّى إذا اعتبرناه أمرا وجوديّاً.
فنرجع مرّة أخرى إلى دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر لا المتباينين، فلا فرق بين ما إذا اعتبرنا الإطلاق أمر عدميّاً كما هو الصحيح وبين ما إذا اعتبرناه أمرا وجوديّاً.
وعليه فهذا العلم الإجماليّ لا يمكن أن يمنع عن جريان البراءة.
ويشير أستاذنا الشهيد إلى أنّ هذا العلم الإجماليّ ينحلّ حينئذ ولا يكون بين المتباينين، وهذا الانحلال سبق وأن قلنا تارة يقصد به الانحلال الحقيقيّ وتارة الحكميّ ويقول إنّه انحلال حقيقيّ يعني لا يكون علم إجماليّ بين المتباينين بالمقدار الذي يدخل في عهدة المكلف.
نعم بالمقدار الذي يكون في عالم الذهن في الملحوظ بالذات يكون علم إجماليّ بين المتباينين ولكن هذا لا فائدة فيه ولا يمنع عن جريان البراءة.
أمّا دعوى الانحلال الحكميّ سبق المناقشة فيه.