46/05/22
الموضوع: الأصول العملية / دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء / الاتّجاه الثاني لإبراز عنصر التباين
انتهينا من تحقيق حقيقة الواجب الارتباطيّ، وبيّنّا أنّ لهذا الواجب ثلاثة تصاوير:
التصوير الأوّل يرى أنّ أجزاء الواجب الارتباطيّ هي أجزاء بذاتها ومقيّدة بعضها ببعض.
التصوير الثاني، الذي ذكره المحقّق العراقيّ رضوان الله تعالى عليه، يرى أنّ وحدانيّة هذه الأجزاء تأتي في مرتبة متأخّرة عن عروض الوجوب.
التصوير الثالث، الذي بيّنه أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه، يقوم على أنّ هذه الأجزاء تدخل تحت عنوان «المجموع»، وهو عنوان يبتكره الذهن البشريّ ويلبسه على الأشياء الخارجيّة.
والآن نعود إلى مسألة الشكّ في الأقلّ والأكثر: هل العلم الإجماليّ بأنّ الواجب إمّا الأقلّ أو الأكثر يمنع من جريان البراءة عن الجزء الزائد؟
لقد قلنا إنّ جريان البراءة أو عدمه متوقّف على تحديد طبيعة العلم الإجماليّ، فإن كان العلم الإجماليّ بين المتباينين، فإنّه يمنع جريان البراءة، وأمّا إذا كان بين الأقلّ والأكثر بالنحو الذي ينحلّ فيه إلى علم تفصيليّ بالأقلّ وشكّ بالزائد، فتجري البراءة.
وقد طُرحت اتجاهان لتفسير التباين بين طرفي هذا العلم الإجماليّ:
الاتجاه الأوّل: التباين يحصل بالنظر إلى حدّ الأقلّ وحدّ الأكثر.
ومرّ البحث عن هذا الاتجّاه وذكرنا أنّه واضح البطلان؛ لأنّ الحدّ (سواء كان حدّ الأقليّة أو الأكثريّة) ليس داخلاً في متعلّق الوجوب. فالوجوب يتعلّق بذات الواجب، لا بحدوده.
الاتجاه الثاني: أحد طرفي العلم الإجماليّ (الأقلّ) مردّد بين الإطلاق والتقييد.
وقد قلنا في بحث الإطلاق والتقييد إنّ النسبة بينهما هي التباين، بناءً على ما هو الصحيح من أنّ الإطلاق أمر عدميّ والتقييد وجوديّ. إذًا، يدور أمر الأقلّ بين الوجود والعدم، وهما متباينان. وبالتالي، يكون العلم الإجماليّ هنا بين المتباينين.
بعد تحقيق حقيقة الواجب الارتباطيّ، يجب أن نبحث: هل الاتجاه الثاني (الذي يرى أنّ العلم الإجماليّ غير منحلّ ويكون بين المتباينين) صحيح وفق أيٍّ من التصاوير الثلاثة التي قدّمناها للواجب الارتباطيّ؟
بناءً على هذا التصوير، واجب الارتباطي يدور بين الإطلاق والتقييد، والنسبة بينهما هي التباين. لذا، قد يُقال إنّ العلم الإجماليّ هنا يكون بين المتباينين.
بناءً على هذا التصوير، فإنّ وحدانيّة أجزاء الواجب الارتباطيّ تأتي في مرتبة متأخّرة عن تعلّق الوجوب. وبالتالي، في ظرف تعلّق الوجوب، لا يوجد تعدّد حتّى يكون هناك تباين. لذا، الاتجاه الثاني لا يتمّ على هذا التصوير.
بناءً على هذا التصوير، الذهن البشريّ يخلق صورة وحدانيّة بعنوان «المجموع»، التي تتضمّن الأجزاء. على الرغم من أنّه قد يُتوهّم أنّ النسبة بين صورتين ذهنيّتين مختلفتين (مجموع 9 أجزاء أو 10 أجزاء) هي التباين، إلّا أنّ النسبة بينهما في الواقع ليست تبايناً حقيقيّاً، بل هي نسبة الأقلّ والأكثر.
النتيجة:
بناءً على التصوير الأوّل، قد يبدو الاتجاه الثاني صحيحاً. أمّا بناءً على التصويرين الثاني والثالث، فلا يكون العلم الإجماليّ بين المتباينين، وبالتالي لا يمنع جريان البراءة عن الجزء المشكوك فيه.