46/04/29
الموضوع: الأصول العملية / دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر / دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الأجزاء
انتهينا من الوجه الأوّل من وجهي انحلال هذا العلم الإجماليّ الذي يدّعى تعلّقه بالأقلّ أو الأكثر أي بتسعة أجزاء أو عشرة أجزاء من الصلاة مثلا.
هناك وجه ثان لهذه الدعوى حاصله أن يقال بأنّ العلم الإجماليّ بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين حاله حال العلم الإجماليّ بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين. فكما يقال في الاستقلاليّين – مثل ما إذا شكّ في عدد الصوم في الذمة هل عشرة أيّام أو تسعة – فيقال إنّ هذا العلم الإجماليّ ينحلّ إلى العلم التفصيليّ بالبعض والشكّ البدويّ في البعض الآخر. فتسعة أيّام معلوم بالعلم التفصيليّ واليوم العاشر مشكوك بدويّاً. فكذلك نفس البيان يجري في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، فنقول [وجوب] تسعة أجزاء من الصلاة الواحدة معلومة بالعلم التفصيليّ و[وجوب] الجزء الآخر مشكوك بالشكّ البدويّ، فتجري عنه البراءة.
وهذا يكون بطبعه الأقلّ والأكثر وليس بين متباينين حتّى يمنع عن البراءة فإنّ العلم الإجماليّ إنّما يمنع عنها إذا كان طرفاه متباينين بخلاف ما هنا.
ومن يدّعى عدم الانحلال لا بدّ له أن يثبت التباين. وإثبات كون مرجعه إلى المتباينين له اتّجاهان علميّان:
الاتّجاه الأوّل: أنّ حدّ الأقلّ متباين مع حدّ الأكثر، والحدّ يعني (المنتهى إليه)، فحدّ الأقلّ شيء وحدّ الأكثر شيء آخر، وإذا كان كذلك فالوجوب المتعلّق بالفعل المحدود بهذا الحدّ غير الوجوب المتعلّق بالفعل المحدود بذاك الحدّ، فالوجوبان يصبحان متباينين فيكون دوران الأمر بين الوجوبين المتباينين.
والاتّجاه الثاني يقول: اقطع النظر عن الحدّين، بل نتمسّك بذات متعلّقي الوجوب. فالوجوب تارةً متعلّق بالأقلّ على إطلاقه وتارة بالأقلّ ضمن الأكثر لا على إطلاقه أو قل الأقلّ المقيّد بالجزء الزائد، وهذان بطبعهما متباينان بقطع النظر عن حدّ الوجوب. وهذا الاتّجاه سيأتي توضيحه.
والآن نبحث عن الاتّجاه الأوّل. فيقال إنّ حدّ المنتهى إليه على فرض كون الوجوب قد تعلّق بالأقلّ عبارة عن تسعة أجزاء ولا يمتدّ إلى أكثر من ذلك، والفعل الذي تعلّق به الوجوب على فرض كون الوجوب قد تعلّق بالأكثر هو التسعة أجزاء الذي يكون مع الجزء العاشر، وهذا يعني أنّ حدّ الوجوب [في فرض تعلّق الوجوب بالأقلّ] يتوقّف، بخلاف ما إذا تعلّق الوجوب بالأكثر الذي في ضمنه الأقلّ، فلا يتوقّف حدّ الوجوب ويمتدّ إلى أكثر من التسعة.
وبما أنّه على كلّ من الفرضين من تعلّق الوجوب بالتسعة أو بالعشرة يتفاوت حدّ وجوب الأقلّ وعلى أحد الفرضين – وهو تعلّقه بالتسعة – حدّه تسعة أجزاء بينما أنّه على الفرض الآخر - وهو فرض التعلّق بالعشرة – لا يتوقّف حدّ وجوب الأقلّ على تسعة أجزاء، فهذان حدّان متباينان، وهذا يؤدّي إلى أنّ الوجوبين متباينان.
وهذا الاتّجاه الأوّل يرد عليه أنّه ماذا يُقصد باختلاف الحدّين؟
فتارةً يُقصد به في مرحلة ما قبل تعلّق الوجوب على الفعل، فإنّ هذا الفعل بما هو هو يمكن أن يكون محدوداً بحدّ تسعة اجزاء أو محدوداً بحدّ عشرة أجزاء وبعد ملاحظة أنّ هذا الفعل يمكن أن يكون محدوداً بهذا الحدّ وذاك الحدّ يطرأ الوجوب عليه، فإن كان هكذا فهذا يعني أنّه إمّا تعلّق الوجوب بعد ذلك بفعلٍ حدُّه تسعة أجزاء أو بعفلٍ حدُّه عشرة أجزاء، وهذا خروج عن محلّ الكلام؛ لأنّ هذا يعني أنّه إمّا تعلّق الوجوب بالفعل مشروطاً بشيء أو تعلّق بفعل مشروطاً بعدم ذلك الشيء، يعني أنّ الجزء العاشر إمّا شرط فيه أو مانع، فيصير دوران الأمر بين الشرطيّة والمانعيّة وهو خارج عن محلّ البحث، مثل ما إذا كان هذا الشرط مردّداً بين وجوبه أو حرمته؛ لكونه شرطاً أو مانعاً أو مبطلاً فهذا خارج عن محلّ الكلام؛ لأنّا نتكلّم فيما إذا كان الوجوب مردّداً بين الأقلّ والأكثر لا بحيث يكون شرطاً أو مانعاً، وهذا يكون على نحو ما إذا لاحظناه قبل مرحلة الوجوب، ثمّ إذا يأتي الوجوب يأتي إمّا على هذا الحدّ أو ذاك وهما متباينان ولكن يخرجان عن محلّ الكلام وهذا يكون مرجعه إلى الشرطيّة والمانعيّة. فهذا التفسير الأوّل يخرجه عن محلّ الكلام نهائيّاً.
وتارةً يُقصد بالقول بأنّ الحدّين متباينان أنّه عند مجيء الوجوب له حدّان متباينان لا قبله، فيأتي الوجوب رأساً إمّا على هذا أو ذاك، لا أن نفرض له حدّين قبل مرحلة الوجوب بل عند مجيء الوجوب. فإن قصد هكذا فنقول إنّ الحدّ لا يدخل في العهدة حتّى يستدعي الامتثال بل ذات الوجوب يدخل في العهدة. إذاً فما يستدعي الامتثال يظلّ بين الأقلّ والأكثر لا بين المتباينين. هذا بناءً على التفسير الثاني.