46/04/25
الموضوع: الأصول العملية / دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر / دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الأجزاء
قلنا يمكن تصوير وجود بعض الموانع عن جريان البراءة عن الجزء الزائد في بحث دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر.
وتعرفون أنّ العلم الإجماليّ لا بدّ وأن يكون بين المتباينين حتّى يوجب الاحتياط. وهل يوجد التباين في ما نحن فيه بين وجوب تسعة أجزاء ووجوب عشرة أجزاء حتّى يكون العلم الإجماليّ موجباً للاحتياط؟
يوجد اتّجاه من يدّعي التباين بين وجوبيهما، فتسعة أجزاء شيء وعشرة أجزاء شيء آخر. فيوجب العلم الإجماليّ الاحتياط ولا تجري البراءة.
ولكن قد يورد عليه بأنّ هذا العلم الإجماليّ منحلّ لعلم تفصيليّ يوجب انحلاله، وبالتالي تجري البراءة؛ لأنّنا نعلم بالعلم التفصيليّ بأحد طرفي هذا العلم الإجماليّ، والعلم التفصيليّ بأحد أطراف العلم الإجمالي يوجب انحلال العلم الإجماليّ.
فهنا يوجد لدينا علم تفصيليّ بوجوب تسعة أجزاء، وذلك لأنّها واجبة على كلّ تقدير، غاية الأمر أنّا لا نعرف هل أنّ وجوبها نفسيّ [على فرض تعلّق الوجوب بالأقلّ] أو غيريّ على نحو المقدّمة الداخليّة على قول من يرى كلّ جزء مقدّمة داخليّة [على فرض تعلّق الوجوب بالأكثر]؟ وهذا الكلام يبتني على مبان باطلة عندنا (يبحث في بحث مقدّمة الواجب) من أنّ وجوب المقدّمة هل يشمل المقدّمة الداخليّة أو يختصّ بالخارجيّة مثل نصب السلّم؟
لكن يوجد إشكال على دعوى الانحلال، سواء ادّعي الانحلال الحقيقيّ أو الحكميّ.
أمّا دعوى الانحلال الحقيقيّ فإنّما يحصل في ما إذا تعلّق علم تفصيليّ بأحد طرفي العلم الإجماليّ بالضبط مثله، أمّا إذا كانت هناك بعض الخصائص لطرفي العلم الإجماليّ ونحن لا نعرف في علمنا التفصيليّ به أنّ تلك الخصوصيّة موجودة أو لا فلا يحصل الانحلال الحقيقيّ.
مثل العلم الإجماليّ بنجاسة أحد الإناءين، فهذا العلم الإجماليّ لو كان يشتمل على خصوصيّة ما في كلا الطرفين (سواء كان هذا الإناء نجساً أو ذاك) كخصوصيّة أنّ النجاسة الطارئة على أحد الطرفين بقطرة دم وقعت في أحدهما، والعلم التفصيلي الذي حصل لنا بنجاسة الإناء على اليمين بالتعيين لم نعرف فيه أنّ هذه النجاسة بقطرة دم أو بقطرة بول أو أيّ سبب، فلا يحصل حينئذ الانحلال الحقيقيّ.
وما نحن فيه من هذا القبيل، فعندنا علم إجماليّ بأنّ الوجوب إمّا تعلّق بتسعة أجزاء نفسيّاً أو بعشرة أجزاء نفسيّاً، ولا نعلم أنّ الوجوب المعلوم بالتفصيل في التسعة نفسيّ أو غيريّ، فعلمنا الإجماليّ تعلّق بأحد الوجوبين النفسيّين، فهذه الخصوصيّة داخلة في علمنا الإجماليّ، ولكنّها غير معلومة في العلم التفصيليّ. فلا نعلم أنّ المعلوم بالعلم التفصيليّ ينطبق على أحد طرفي المعلوم بالعلم الإجماليّ أو لا، فلا يحصل الانحلال الحقيقيّ.
وأمّا الانحلال الحكميّ فلا يحصل أيضاً.
وتعرفون الفرق بينه وبين الانحلال الحقيقيّ، فالحقيقيّ هو ما إذا لم يبق في النفس علم إجماليّ أبداً؛ لأنّ أحد طرفيه معلوم عندنا بتمام خصوصيّاته فلا يبقى عندنا علم إجماليّ بل يبقى علم تفصيليّ وشكّ بدويّ.
والحكميّ هو ما إذا تعلّق منجّز بأحد طرفي العلم الإجماليّ، فالطرف الآخر تجري فيه البراءة بدون معارض. ومثاله ما إذا علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين وقامت البينة أو خبر الثقة – بناء على حجّيّته في الموضوعات – على نجاسة أحدهما معيّناً فيقال إنّ العلم الإجماليّ لا ينجّز، رغم أنّه موجود حقيقةً (لعدم تحقّق الانحلال الحقيقيّ) ويبقى المجال مفسوحاً لإجراء البراءة.
والانحلال الحكمي يكون بأحد المبنيين في بيان تحقّقه بمجيء منجّز آخر في أحد طرفيه، فأحد المبنيين يقول: عند وجود منجّز في أحد الطرفين، تبقى البراءة في الطرف الآخر بدون المعارض. والمبنى الآخر ما بنى عليه المحقّق العراقيّ من أنّ الشيء لا يتنجّز بمنجّزين، فهذا الطرف منجّز بطبعه ببيّنة، سواء وجد العلم الإجماليّ أو لا، فالطرف الآخر لا ينجّز بالعلم الإجماليّ بعد، ويسقط العلم الإجماليّ عن تنجيزه.
فعلى هذا المبنى يقال أيضاً في ما نحن فيه: إنّ أحد طرفي العلم الإجماليّ في ما نحن فيه له وجوب بطبعه وهو وجوب الأقلّ وهذا الوجوب منجّز، فمن يدّعي الانحلال الحكميّ هكذا يقول؛ لأنّ وجوب التسعة مسلّم فهو منجّز سواء وجد العلم الإجماليّ أو لا، وهذا يعني أنّ التنجيز موجود في هذا الطرف ويسقط العلم الإجماليّ عن التنجيز.
ولكن يجاب عليه بأنّه لو قصد الانحلال الحكميّ فهو باطل أيضاً.
وبيانه: أنّ الانحلال الحكميّ يستدعي وجود منجّز لأحد طرفي العلم الإجماليّ، والوجوب الموجود بالعلم التفصيليّ هنا لتسعة أجزاء ليس منجّزاً مسلّماً؛ لأنّه إن كان نفسيّاً فهو منجّز وإن كان غيريّاً فإنّه غير منجّز؛ مثل وجوب نصب السلّم لأجل الصعود على السطح فالوجوب تعلّق بالكون على السطح فيجب عليه عقلاً نصب السلّم، فهو مقدّمة والوجوب يسري إليه من ذي المقدّمة لكن هذا الوجوب الذي يسري إلى المقدّمة ليس له التنجيز المستقلّ ولا يتنجّز عليه حكمان ولا يعاقب بعقابين عقابٍ لعدم نصب السلم وعقابٍ لأجل عدم الكون على السطح، وإنّما يعاقب بعقاب واحد لذي المقدّمة، وهذا يعني أنّه لا توجد منجّزيّة للوجوب المقدّميّ الغيريّ. وهنا لا ندري في ما نحن فيه أنّ الوجوب الذي نعلم به بالعلم التفصيليّ للتسعة هل نفسيّ أو غيريّ؟ وهذا يعني أنّا لا نتأكّد من وجود منجّز لهذا الطرف من طرفي العلم الإجماليّ (أي تسعة أجزاء).
فالانحلال الحكميّ أيضاً لا يحصل على كلا المبنيين.
فهذا العلم الإجماليّ الذي ادّعي في المقام للمنع عن جريان البراءة لا ينحلّ بأيّ نحو من الانحلال.