46/04/23
الموضوع: الأصول العملية / دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر / العوالم الأربعة الدخيلة في البحث
بدأنا ببحث الأقلّ والأكثر ونقول في البداية على وجه الإجمال: إنّ دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ما لم يرجع بروحه وجوهره إلى المتباينين فهذا يعني إمكان جريان البراءة عن الجزء الزائد المشكوك، بخلاف ما إذا رجع بروحه وجوهره إلى المتباينين، فحينئذ يجب الاحتياط. ولهذا لا بدّ أن نبحث أنّ ما كان في ظاهره دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر هل يرجع بروحه وجوهره إلى المتباينين أو لا؟
أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه يقول إنّ لدينا أربعة عوالم في كلّ منها لا بدّ أن نفتّش عن دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر من دون الرجوع إلى المتباينين، وبعد ذلك فلْنبحث أنّ البراءة تجري في أيّ من هذه العوالم؟
العالم الأوّل: عالم لحاظ المولى وجعله. فعندما يريد المولى جعل الحكم لشيء لا بدّ أن يلاحظه حتّى يجعله، ولا ندري أنّ المولى في هذا العالم هل لاحظ أمراً مطلقاً (مثلاً تسعة أجزاء مطلقةً عن الجزء العاشر) أو لاحظ مقيّداً (كعشرة أجزاء، أي تسعة أجزاء مقيّدة بهذا الجزء)؟ وهذا دوران للأمر بين الأقلّ والأكثر. فتجري البراءة عن الجزء العاشر المشكوك؛ لأنّنا لم نرجع الأقلّ والأكثر بروحه وجوهره إلى التباين.
والعالم الثاني: عالم الوجوب والإلزام. فالمولى عندما يلاحظ ما يريد جعله يلاحظه ثمّ يجعل الوجوب على طبق ما يريد. فتارةً يجعل الوجوب والإلزام على تسعة أجزاء فقط وتارة على عشرة، ويمكن تصوير كون لحاظ المولى على كلا التقديرين متباينين ولكنّه في عالم الوجوب والإلزام غير متباينين.
فيوضّح هنا الفرق بين العالم الثاني والعالم الأوّل فيقول: بناء على الرأي القائل في أنّ الإطلاق أمر وجوديّ (وهو لحاظ عدم القيد، بخلاف القول بأنّه عدميّ أي عدم لحاظ القيد) كما أنّ التقييد كذلك فسواء يريد المولى تسعة أجزاء أو عشرة أجزاء فله لحاظ وجوديّ، إمّا لحاظ تسعة أجزاء مع لحاظ الإطلاق وإمّا لحاظ تسعة أجزاء مع لحاظ التقييد بالجزء العاشر. إذاً يدور الأمر في العالم الأوّل بين المتباينين، فهذان لحاظان متباينان على هذا المبنى.
لكن على غير هذا المبنى نقول يدور الأمر في عالم الوجوب والإلزام بين الأقلّ والأكثر لا المتباينين؛ لأنّه يتعلّق وجوبه وإلزامه تارة بالأجزاء التسعة مطلقةً وتارة مقيّدةً، وهذا يعتبر متباينين في العالم الأوّل بخلاف عالم الوجوب والإلزام، فيتعلّق الوجوب والإلزام فيها إمّا بتسعة أجزاء المطلقة، أو مع الجزء العاشر فيصير أقلّ وأكثر.
والعالم الثالث: ما عبّر عنه أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه بعالم التحميل العقليّ والظاهر أنّه يقصد بذلك عالم حكم العقل بالامتثال، ففي هذا العالم قد يشكّ بحكم العقل فهل يحكم العقل بالامتثال بتسعة أجزاء أو عشرة؟
أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه لتحصيل المثال لهذا العالم لجأ إلى ما يلحق ببحث الأقلّ والأكثر وهو دوران الأمر بين التعيين والتخيير وحصّل مثالاً للحالة التي يشكّ فيها الإنسان أنّ العقل ماذا يحكم، (لا أنّ المولى ماذا لاحظ، ولا أنّ المولى ماذا صدّر من الوجوب).
فإنّه لو شككنا في أنّ المولى هل أمر بوجوب إكرام الإنسان بما هو ناطق بالذات أو بوجوب إكرام الحيوان أعمّ من أن يكون ناطقاً أو صاهلاً، فتكليفه إمّا يتعلّق بالإنسان تعييناً، وإمّا يتعلّق بالتخيير بين الإنسان وغيره من الحيوانات.
فهنا يمكن القول – بناء على إلحاقه إلى ببحث دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين كما هو المشهور – بأنّ الأكثر هو التعيين؛ لأنّ فيه زيادة قيد الناطقيّة بخلاف التخيير لعدم زيادة ذلك القيد فيه. فيدور الأمر بين الأقلّ والأكثر، وبالتالي إن كان مجرى البراءة في هذا العالم (أي عالم التحميل العقليّ) لجرت البراءة فيه.
والعالم الرابع: يعبّر عنه أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه بالعالم التطبيق الخارجيّ، ويظهر الفرق بين العالم الثالث والرابع في نفس مثال التعيين والتخيير. ففي مثال الصلاة إذا اكتفى بتسعة أجزاء فقد عمل بأحد طرفي دوران الأمر وإذا أضاف الجزء العاشر فقد عمل بالطرف الآخر، بينما في مثل التعيين والتخيير ليس الأمر كذلك، فلو عمل بالأقلّ لا يمكنه أن يضيف إليه شيئاً ما ليصير العمل بالطرف الآخر من الدوران. فإذا عمل بإكرام الحيوان وامتثل بإكرام الحيوان الصاهل فهل يستطيع أن يضيف إليه شيئاً يحصل الطرف الآخر للدوران؟ لا، وإذا أراد أن يعمل بالطرف الآخر لهذا التخيير لا بدّ عليه أن يلغي ما صنعه من إكرام الفرس ويتحوّل إلى إكرام الإنسان، وهذا هو الفرق بين العالم الثالث والرابع.
فمثال التعيين والتخيير لا يجري في العالم الرابع وإنّما يجري في العالم الثالث ولعلّه لهذا السبب قال أستاذنا الشهيد إنّ أوسع هذه العوالم هو العالم الثالث؛ لأنّه يشمل موارد الدوران بين التعيين والتخيير.