الأستاذ السيد علي‌اکبر الحائري
بحث الأصول

46/04/22

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: الأصول العملية / دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر / العوالم الأربعة الدخيلة في البحث

1- دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر

إنّ الأقلّ والأكثر تارة يكونان ارتباطيّين وتارة استقلاليّين. مثال الاستقلاليّين ما إذا شكّ أنّ ما عليه من الصوم الواجب القضائيّ عشرة أيّام أو تسعة؟ فالنسبة فيهما استقلاليّة لا ارتباطيّة، ولكلّ يوم وجوب مستقلّ عن وجوب الآخر، فمن الطبيعيّ إجراء البراءة عن الجزء الزائد، ولا كلام في ذلك. وإنّما البحث والكلام في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين في ما إذا كان هناك وجوب واحد ولكن لا ندري هل تعلّق بالأقلّ أو الأكثر؟ كما في مثال الصلاة الواحدة إذا شككنا في أنّ الأجزاء الواجبة لهذه الصلاة عشرة أو تسعة؟ مثل شكّنا في وجوب القنوت أو السورة.

ولا بأس أن ننبّه على شيء – وإن لم ينبّه عليه السيد الشهيد هنا ولكنّه مبحوث في محلّه – وهو أنّ بعض الأجزاء في الصلاة قد تكون الجزئيّة فيه على نحو لو لم يفعله لا تبطل الصلاة رغم جزئيّته.

نعم يكون البحث في السورة هكذا، من أنّ وجوب السورة هل بمعنى أنّها لو تركناها متعمّداً لبطلت الصلاة؟ أمّا الترك غير المتعمّد بالنسبة إلى بعض الأجزاء مثل القراءة غير مبطل فهذا بحث آخر.

فهل تبطل الصلاة بتركها العمديّ رغم أنّها واجبة في الصلاة؟ فإنّه قد يكون [من باب] الواجب في الواجب، بحيث لو تركها أثم في ترك وجوب السورة، ولكن أصل الصلاة لا تبطل رغم وجوبها. لكنه خارج عن بحثنا؛ لأنّا نبحث الآن عن الأقلّ والأكثر الارتباطيّين بحيث لو كان الواجب هو الأكثر إذا ترك هذا الجزء المشكوك تبطل الصلاة.

1.1- العوالم الأربعة الدخيلة في البحث

يقول أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه: عندنا عدّة عوالم للحكم الشرعيّ الذي دار الأمر فيه بين الأقلّ والأكثر، فقد يكون الدوران بينهما صادقاً وحاصلاً في بعض العوالم وغير حاصل في عالم آخر منها.

ومن البداية ينبّه على أنّه إن كان الأمر في روحه وجوهره حقّاً بين الأقلّ والأكثر ولا يكون مرجعه إلى المتباينين لجرت البراءة عن الجزء الزائد، لكن إذا كان مرجعه إليه إن قلنا إنّ الصلاة ذات تسعة أجزاء مع الصلاة ذات عشرة أجزاء متباينتان وهذه نوع من الصلاة وتلك نوع آخر، ونحن تردّدنا أنّ ما أوجبه الشارع تبارك وتعالى هذا النوع أو ذاك، وجب الاحتياط ولا تجري البراءة.

فإذاً نبحث هذا البحث لكي نجد أنّه في أيّ عالم من العوالم التي يعدّدها أستاذنا الشهيد يكون الدوران في روحه وجوهره دورانا للأمر بين الأقلّ والأكثر ولا يرجع إلى المتباينين حتّى نجري البراءة عن الجزء الزائد المشكوك فيه؟ وفي أيّ عالم منها لا يكون كذلك فلا تجري البراءة ويجري الاحتياط بينهما؟

هذه العوالم ليست عوالم مبادئ الحكم التي بحثها أستاذنا الشهيد وموجود بالحلقات وهي تبدأ بعالم الملاك ثمّ عالم الإرادة ثمّ عالم الجعل. بل هذا بحث جديد وقد لا يكون بين العوالم الأربعة ترتيب فنّيّ.

العالم الأوّل: عالم جعل المولى ولحاظه، الشارع تبارك وتعالى يلحظ عند الجعلِ الشيءَ الذي يريد جعله حتّى يجعله، وفي هذا العالم يمكن أن يكون هذا اللحاظ لحاظاً بين الأقلّ والأكثر ويمكن أن يكون بين المتباينين.

العالم الثاني: عالم الوجوب والإلزام، فقد يكون في عالم اللحاظ [أي العالم الأوّل] أمران متباينان، ولكن في عالم الوجوب والإلزام أمران بين الأقلّ والأكثر، وذلك بأنّه في العالم السابق قد يقول القائل بأنّه سواء كان الواجب على العبد المقدار الأكثر أو المقدار الأقلّ فلحاظ المولى لكلّ واحد منهما متباين مع الآخر، كما إذا كان من حيث الوجوب مردّداً بين المطلق والمقيّد في ما إذا اعتبرنا الإطلاق داخلاً في اللحاظ؛ فإنّه مبحوث في بحث المطلق والمقيّد أنّ الإطلاق عبارة عن لحاظ عدم القيد أو عبارة عن عدم لحاظ القيد. فإذا قلنا بالثاني فهذا أمر عدميّ لا يدخل في اللحاظ، أمّا إذا قلنا إنّه لحاظ عدم القيد فالإطلاق داخل في اللحاظ كما هو حال التقييد، فيكون اللحاظان بحسب العالم السابق متباينين، أي يكون مرجع الأقلّ والأكثر إلى التباين، ولكن بلحاظ عالم الوجوب والإلزام فالجزء المشكوك إمّا هو داخل في الوجوب والإلزام أو غير داخل فيه، فيكون الدوران في عالم الوجوب والإلزام بين الأقلّ والأكثر لا بين المتباينين. هذا هو الفرق بين العالمين.

العالم الثالث: يسمّيه أستاذنا الشهيد بعالم التحميل العقليّ، والظاهر أنّ المراد به عالم حكم العقل بلزوم الامتثال وأنّه بأيّ مقدار يحكم العقل بلزومه؟ هل يحكم به بنحو التباين بين الأمرين المتباينين أو بنحو أقلّ دون الجزء الزائد؟

هنا ينبّه أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه على أنّه قد يكون دوران الأمر في العالم الأوّل والثاني بين المتباينين، ولكن في عالم حكم العقل بوجوب الامتثال أي عالم التحميل العقليّ دوراناً بين الأقلّ والأكثر، حتّى وإن كان في العالمين السابقين بين متباينين. فتجد بحسب هذا العالم مجالاً لجريان البراءة؛ لأنّه بين الأقلّ والأكثر.

ويمثّل أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه للعالم الثالث بمثال دوران الأمر بين التعيين والتخيير، كما إذا الأمر بين وجوب إكرام الإنسان أو وجوب إكرام الحيوان الذي يشمل الحيوان الناطق (أي الإنسان) والناهق، فهنا يقول لو افترضنا دوران الأمر في العالمين السابقين بين المتباينين لكن في هذا العالم الثالث يكون بين الأقلّ والأكثر؛ [لأنّ حكم العقل بوجوب إكرام الإنسان يشتمل على حكمه بوجوب إكرام الحيوان وامتثال المكلّف لإكرام الإنسان يكون امتثالاً لإكرام الحيوان ولا العكس]. فنواجه دوران الأمر في هذا العالم بين الأقلّ والأكثر، رغم ما إذا اعتبرنا الدوران في العالمين الأوّلين بين المتباينين.

العالم الرابع: يعبّر عنه أستاذنا الشهيد بعالم التطبيق الخارجيّ، وما يتحقّق على يد المكلّف في الخارج إذا أراد أن يمتثل، فتحقيق العمل في العالم الخارجيّ يكون تارة لتسعة أجزاء أو عشرة. يقول: حتّى إذا اعتبرنا التردّد في العوالم السابقة بين المتباينين لكن في هذا العالم الرابع يكون بين الأقلّ والأكثر عملا في العالم الخارجيّ.