46/04/17
الموضوع: الأصول العملية / دوران الأمر بين المحذورين / المقام الثالث: تكرّر الواقعة في التوصّليّين
قلنا توجد نظريّتان لحلّ مشكلة عدم الاستطاعة للعمل بكلا العلمين الإجماليّين لتعاكسهما، وهما العلم الإجماليّ بأنّ هذا الفعل إمّا يجب في يوم الخميس وإمّا يحرم في يوم الجمعة والعلم الإجماليّ بأنّه إمّا يحرم في يوم الخميس أو يجب في يوم الجمعة.
النظريّة الأولى تقول بلابدّيّة التنزّل من الامتثال القطعيّ إلى الامتثال الاحتماليّ، فنفعله في كلا اليومين أو نتركهما فيهما فننتهي إلى الامتثال الاحتماليّ لكلا العلمين الإجماليّين.
والنظريّة الثانية تقول بأنّه لا بدّ أن نراعي الأهمّيّة ونقدّم الأهمّ على المهمّ.
وكان يوجد تقريبان لتصحيح النظريّة الأولى وانتهينا من التقريب الأوّل مع الإيرادين عليه من قبل أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه وتحولّنا إلى التقريب الثاني وهو ما نقله أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه من كتاب الدراسات وهو للسيّد علي الشاهرودي أبي المرحوم السيّد محمود الشاهرودي، وكان حاصله أنّ التزاحم هنا ليس بلحاظ أغراض المولى بسبب ضيق قدرة المكلّف (كما هو كذلك في مثال إنقاذ الغريق فالتزاحم فيه بين غرضين مولويّين وهو بسبب ضيق قدرة المكلّف لامتثال وجوب إنقاذ الغريق وحرمة إتلاف مال الغير معاً فيقدّم الأهمّ على المهمّ) وإنّما يكون بين حكمين عقليّين بلزوم إطاعة المولى من خلال العلم الإجماليّ الأوّل والعلم الإجماليّ الثاني اللذين عبّرنا عنهما في الدروس الماضية بالعلم الإجماليّ الرابع والثالث. وهما العلم الإجماليّ بأنّ هذا الفعل إمّا يجب في يوم الخميس وإمّا يحرم في يوم الجمعة والعلم الإجماليّ بأنّه إمّا يحرم في يوم الخميس أو يجب في يوم الجمعة وهذان العلمان الإجماليّان متعاكسان.
فإنّه إن كان التزاحم بين أغراض المولى بسبب ضيق قدرة المكلّف كما في مثال إنقاذ الغريق فهذا يؤدّي إلى أن نقيّد الحكم الأقلّ أهميّة بحالة عدم العمل بالأهمّ، أي إن لم يعمل الأهمّ يرجع عليه حكم المهمّ.
وصاحب هذا التقريب له عبارة غريبة وهي: أنّ العقل يحكم بلزوم العمل بإلزامات المولى الناشئة من ملاك المهمّ على حدّ حكمه بلزوم إطاعة المولى الناشئة من ملاك الأهمّ. وهذا غريب جدّاً؛ فإنّه كيف يحكم بأنّ العقل يحكم هكذا؟ فإنّه غريب جدّاً.
ويقول أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه إنّ هذا الكلام بهذا الحدّ كلام مشوّش لا يمكن فهمه ولكنّ المظنون – بحسب تعبير السيّد الشهيد – أنّ السيّد الخوئيّ رضوان الله تعالى عليه كان يجمع بين هذا التقريب والتقريب الأوّل، أي لا يكتفي بأنّ التزاحم هنا ليس بين أغراض المولى بسبب ضيق قدرة المكلّف، بل بين حكمين عقليّين بلزوم إطاعة المولى، بل يظنّ ذلك أنّه ما دام التزاحم صار بين حكمين عقليّين بلزوم إطاعة المولى لا بدّ وأن نجد بأنّ أيّ شيء نرجّح عقلاً ما دام التزاحم هكذا لا بين أغراض المولى بسبب ضيق قدرة المكلّف، فلا بدّ وأن نعالج هذا التزاحم بطريقة لا نضحّي بحرمة المخالفة القطعيّة في أحدهما وذلك بأن نتنزّل من الامتثال القطعيّ إلى الامتثال الاحتماليّ وهو أولى وأرجح من أن نضحّي بحرمة المخالفة القطعيّة، لما ذكر في التقريب الأوّل من تنجيزيّة حرمة المخالفة القطعيّة وتعليقيّة وجوب الموافقة القطعيّة. فمن ناحية إنّ التزاحم هنا ليس بين أغراض المولى بسبب ضيق قدرة المكلّف حتّى نقيّد أحدهما بالآخر أو بعدم الآخر، ومن ناحية أخرى ما قيل في التقريب الأوّل من أنّه مهما أمكن لا نضحّي بحرمة المخالفة القطعيّة لتنجيزيّته بخلاف وجوب الموافقة القطعيّة، فإذا نجمع بين هذين التقريبين ننتهي إلى القول بأنّه إذاً لا يحقّ لنا العمل بالأهمّيّة؛ لأنّا لو عملنا بميزان الأهمّيّة تصير التضحية بحرمة المخالفة القطعيّة فننتهي إلى النتيجة التي يريدها صاحب هذا التقريب وهو أنّه إذاً لا بدّ وأن لا نعمل بالأهمّيّة، بل نتنزّل إلى الامتثال الاحتماليّ.
هذا غاية ما يمكن أن نطرح في توضيح التقريب الثاني مع تثبيته وتأييده، ولكن مع ذلك يورد أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه إشكالاً على هذا التقريب وحاصله أنّا لو سلّمنا ما يقوله صاحب هذا التقريب من أنّه ليس التزاحم بين أغراض المولى بسبب ضيق قدرة المكلّف بل بين حكمين عقليّين بلزوم إطاعة المولى فهل نحكم بلزوم إطاعة المولى من خلال العلم الإجماليّ الأوّل أو العلم الإجماليّ الثاني، فلو سلّمنا بكلّ هذا فهل يؤدّي هو إلى رفع اليد عن ميزان الأهمّيّة حتّى وإن ضممناه إلى التقريب الأوّل؟
يقول: لا، هذا لا يؤدّي إلى رفع اليد عن ذلك، وذلك لأنّ التزاحم وقع بين أن نعمل ونطيع المولى من خلال العلم الإجماليّ الأوّل أو نطيعه من خلال العلم الإجماليّ الثاني، وهذا التزاحم لا ينتهي إلى ما قاله من رفع اليد عن الأهميّة وحلّه بالتنزّل من الامتثال القطعيّ إلى الاحتماليّ بمجرّد كون تقديم الأهمّ على المهمّ باحتساب أنّ اهتمام المولى بالإطاعة بالأهمّ والإطاعة بالأقلّ أهميّةً على حدّ سواء، بل يمكن القول بأنّ العقل يحكم على الإنسان بأنّه في أيّ حالة وقع التزاحم، سواء وقع بين أغراض المولى بسبب ضيق قدرة المكلّف أو بين حكمين عقليين بلزوم إطاعة المولى فالمولى تبارك وتعالى في كلّ تزاحم ماذا يصنع؟ المكلّف لا بدّ أن يضع نفسه في مكان المولى كأنّه هو المولى ويقول: أنا أجعل نفسي كأنّي آلة بيد المولى، فإنّه بأيّ نحو يريد أن يحرّك الآلة؟ فالمولى سواء كان التزاحم بالنحو الأوّل أو الثاني يقدّم الأهمّ على الأقلّ أهمّيّة.