46/04/16
الموضوع: الأصول العملية / دوران الأمر بين المحذورين / المقام الثالث: تكرّر الواقعة في التوصّليّين
قلنا توجد نظريّتان في بحثنا هذا والنظريّة الأولى تقول بأنّه لا بدّ من التنزّل من الامتثال القطعيّ إلى الاحتماليّ، وهو بأن يفعل في كلا اليومين أو بأن يترك فيهما، فسواء ترك في كلا اليومين أو فعل في كليهما فهو امتثال احتماليّ لكلا العلمين الإجماليّين.
ونقصد بكلا العلمين الإجماليّين العلم الإجماليّ بوجوب الفعل في يوم الخميس أو حرمته في يوم الجمعة والعلم الإجماليّ بأنّه إمّا يحرم في يوم الخميس أو يجب في يوم الجمعة، والمكلّف غير قادر على العمل بهما معاً وإن كان قادراً على العمل بأحدهما مستقلّاً.
فقلنا يوجد تقريبان لصحّة النظريّة الأولى، التقريب الأوّل انتهينا عنه مع ذكر إيرادين عليه من قبل أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه وتحوّلنا إلى التقريب الثاني الذي يبيّن فيه وجه الفرق الفنّي بين الموارد التي يجب تقديم الأهمّ على المهمّ كما في مثال إنقاذ الغريق وبين مورد بحثنا.
والفرق بينهما هو أنّه ليست المشكلة في موارد تقديم الأهمّ مشكلة عدم المعرفة أو الشكّ في غرض المولى. ففي موارد أمثال إنقاذ الغريق يقيّد الحكم الأقلّ أهمّيّة بحالة عدم امتثال الأهمّ، فإن لم تنقذ الغريق وجب عليك ترك غصب مال الغير في هذا الطريق، وإنّما ترفع عنك حرمة إتلاف مال الغير في الطريق في ما إذا تريد أن تنقذ الغريق، أمّا إذا لا تريد الإنقاذ فلا يجوز لك أن تجتاز هذا الطريق المغصوب.
إذاً ففي تلك الموارد يقيّد أحد الحكمين – الذي هو الأقلّ أهمّيّة – ويرفع اليد عن إطلاقه، فغرض ترك غصب مال الغير في هذه المسافة من الطريق يقيّد بترك الغرض الأهمّ الإلهيّ. هذا حكم من يواجه التزاحم الامتثاليّ بالمعنى الذي موجود في مثال إنقاذ الغريق.
أمّا في ما نحن فيه فيوجد أيضاً غرضان إلهيّان وذلك لأنّ الله تبارك وتعالى يريد العمل بالنذر، والغرض الإلهي تعلّق به نذر المكلّف وإن اشتبه عليه الآن وما يدري هل نذر أكل الرمان (مثلاً) أو تركه، ولكنّ الغرض الإلهي متعلّق إجمالاً بالعمل بما تعلّق به نذره، فبشأن يوم الخميس له هذا الغرض وبشأن يوم الجمعة أيضاً له هذا الغرض.
فيوجد للمولى غرضان، غرض العمل بمتعلّق نذره في يوم الخميس وغرض العمل بمتعلّق نذره في يوم الجمعة، هذان الغرضان هل يوجد تزاحم بالعمل بهما كالتزاحم بالعمل بإنقاذ الغريق والعمل بترك الغصب في الطريق؟
فنقول لا، لا يوجد تزاحم من هذا القبيل في ما نحن فيه حتّى يتمسّك المكلّف بالأهمّ ويترك المهمّ.
وذلك لأنّ المشكلة هنا مشكلة الجهل والشكّ، وليست المشكلة العملَ بالغرضين الإلهيّين. والغرضان الإلهيّان يمكن العمل بهما في ما نحن فيه بقطع النظر عن شكّ المكلّف في أنّ الغرض بمَ يحصل، بالفعل أو الترك. فبقطع النظر عن ذلك نجد أنّ الغرضين الإلهيّين قابلان للتحصيل معاً؛ لأنّ الغرض الإلهيّ بشأن يوم الخميس أن يعمل بمتعلّق نذره [في يوم الخميس] والغرض الإلهيّ بشأن يوم الجمعة أيضاً أن يحقّق متعلّق نذره [في يوم الجمعة] وهو قادر على أن يحقّق متعلّق نذره في يوم الجمعة ويحقّق متعلّق نذره في يوم الخميس.
وإذا لم يعلم المكلّف في تحقّق كلّ من هذين الغرضين المولويّين بالفعل في اليومين أو بالترك فيهما فهذا أمر آخر. فلو غضضنا النظر عن هذا الشكّ فهذان الغرضان قابلان للجمع إجمالاً وقابلان للتحصيل من قبل المكلّف، فهو قادر على أن يحقّق غرض المولى بشأن يوم الخميس وكذلك قادر عليه بشأن يوم الجمعة معاً فلا موجب لتقييد إطلاق أحدهما.
أمّا في مثال إنقاذ الغريق فيضطرّ المولى لتقييد أحد الغرضين بعدم ترك الغرض الأهمّ بينما لا موجب هنا لتقييد أحد الغرضين، فكلاهما يبقيان مطلقين، فلا تصل النوبة إلى التمسّك بتقديم الأهمّ على المهمّ؛ لأنّهما على حدّ سواء لأنّه يجب العمل بأغراض المولى على حدّ سواء.
وهنا كلام غريب يعبّر عنه السيّد الشهيد بأنّه صيغة مشوّشة جاء في تقريرات السيد الخوئيّ رحمه الله وأنّه يقول إنّ الأهمّ والمهمّ لا فرق بينهما في حالة إمكان العمل بالغرضين الإلهيّين حتّى وإن كانا أحدهما أهمّ من الآخر، ولكن ما دام هو قادر على العمل بكليهما فيبقيان على إطلاقهما ولا موجب لتقييد أحدهما بالآخر. فلا تصل النوبة إذاً إلى تقديم الأهمّ على المهمّ. فلا يبقى أمامنا خيار عدا خيار التنزّل من الامتثال القطعيّ إلى الامتثال الاحتماليّ.