46/04/09
الموضوع: الأصول العملية / دوران الأمر بين المحذورين / المقام الثالث: تكرّر الواقعة في التوصّليّين
كان البحث في دوران الأمر بين المحذورين، لو علم المكلّف بأن الفعل المعيّن إمّا واجب أو حرام، كما إذا نذر أن يفعل أو نذر أن لا يفعل، ولكنّه نسي أنّ نذره تعلّق بالفعل أو بالترك. فسيصبح عالماً إجمالاً بأنّ هذا الفعل إمّا واجب أو حرام. قلنا إنّه في هذه الحالات، لولا ميزة معيّنة، لا يكون هذا العلم منجّزاً، لا للموافقة القطعيّة لأنّه لا يستطيع أن يفعل ويترك في نفس الوقت، ولا يكون منجّزاً لحرمة المخالفة القطعيّة، لأنّه أيضاً لا يمكنه أن يخالف مخالفة قطعيّة، أي لا يفعل ولا يترك.
ولكن عند توفّر إحدى الميزتين، قد يُقال إنّ المخالفة القطعيّة لهذا العلم الإجمالي تُنجّز حرمة المخالفة القطعيّة. ما هما الميزتان اللتان يؤدّيان إلى حرمة المخالفة القطعيّة؟ أوّلاً: كون الفعل عباديّاً، فيُقال إنّه بإمكانه أن يخالف مخالفة قطعيّة بترك التقرّب، فإذا ترك التقرّب، فسواء كان حكمه الواقعيّ الوجوب أو الحرمة، تتحقّق المخالفة القطعيّة. والميزة الثانية: هي أن يكون الفعل متكرّراً. ولتسهيل الأمر، نفترض أنّه يتكرّر مرّتين فقط في يومين. فإذا علم إجمالاً بأنّ الفعل إمّا يحرم في يوم الخميس أو الجمعة، فيمكنه أن يحقّق المخالفة القطعيّة بأن يفعل في يوم ويترك في يوم آخر.
أستاذنا الشهيد، رضوان الله تعالى عليه، عقد ثلاث مقامات: المقام الأوّل، فيما إذا لم تتحقّق أيّ من الميزتين؛ لا العباديّة ولا التكرار في الفعل التوصليّ. المقام الثاني، عدم تكرار الواقعة في الفعل العباديّ، حيث تحقّقت ميزة العباديّة ولم تتحقّق ميزة التكرار. والمقام الثالث هو تكرار الواقعة التوصّليّة، أي عندما تتحقّق ميزة التكرار ولكن لا تتحقّق ميزة العباديّة.
كمّلنا البحث عن المقام الأوّل والثاني، ودخلنا في المقام الثالث. وفي هذه الحالة، قلنا إنّه إذا لم يمكن الموافقة القطعيّة، لكن أمكن المخالفة القطعية، فإنّ هذا العلم يصبح منجزّاً على مستوى حرمة المخالفة القطعيّة. هل هذا صحيح؟
المحقّق الأصفهانيّ، رضوان الله تعالى عليه، قال بأنّ المخالفة القطعيّة لهذا العلم الإجماليّ غير ممكن، فكيف يمكن أن يكون منجّزاً لحرمة المخالفة القطعيّة؟
ولكن هذا يبتني على أنّ الصيغة العلم الإجماليّ تكون بصيغة أن هذا الفعل إمّا واجب في يوم الخميس والجمعة أو حرام في يوم الخميس والجمعة. هذا العلم الإجمالي بهذه الصياغة [غير] قابل للمخالفة القطعيّة.
أستاذنا الشهيد، رضوان الله عليه، يقول في هذا المقام الثالث: عندنا علمان إجماليّان. إذا أفرزنا هذين العلمين الإجماليّين، يصبح كلّ منهما صالحاً للمخالفة القطعيّة. علم إجماليّ بأنّ هذا الفعل إمّا واجب في يوم الخميس أو حرام في يوم الجمعة. فإنّه يكون صالحاً للمخالفة القطعيّة [بأن يترك الفعل في يوم الخميس ويفعله في يوم الجمعة، وعندنا علم إجماليّ آخر بأنّ هذا الفعل إمّا حرام في يوم الخميس أو واجب في يوم الجمعة، فهذا العلم الإجماليّ أيضاً يكون صالحاً للمخالفة القطعيّة بأن يفعل الفعل في يوم الخميس ويتركه في يوم الجمعة].
هذا العلم الإجماليّ بهذه الصياغة صالح للموافقة [القطعيّة] كما يصلح للمخالفة [القطعيّة]، لكنّ المحقق الأصفهانيّ، رضوان الله تعالى عليه، استشكل في منجّزيّة هذا العلم. وقال إنّ هذا العلم الإجماليّ غير قابل للتنجيز، حتّى للمخالفة القطعية، وذلك بسبب الطوليّة التي ابتلي بها في هذا الفرض. فإنّه قال بأنّ هذا العلم الإجماليّ الذي افترضت أنّه قابل للتنجيز وليد (أو بتعبير آخر منتزع) عن علم إجماليّ أسبق منه رتبةً. وهو العلم الإجمالي بأنّ هذا الفعل في يوم الخميس إمّا واجب أو حرام، والعلم الإجمالي في يوم الجمعة بأن هذا إمّا واجب أو حرام. فقد ذكرنا سابقاً أنّ هذين العلمين الإجماليّين غير صالحين للتنجيز، فإذا اخترنا جانباً من هذا وجانباً من ذاك العلم الإجمالي، بصيغة أنّه إمّا واجب في يوم الخميس أو حرام في يوم الجمعة، فهذا في الظاهر قد يُتخيّل بأنّه صالح للتنجيز، لكن في الحقيقة هذا العلم الإجمالي في طول ذاك العلم الإجمالي غير الصالح للتنجيز، وبالتالي يقول بأنّ هذا وليد ذلك العلم الإجماليّ الذي غير صالح للتنجيز.
أستاذنا الشهيد، رضوان الله تعالى عليه، أورد على المحقّق الأصفهانيّ بإيرادين. الإيراد الأوّل: ينبّه أستاذنا الشهيد، رضوان الله عليه، أنّ ما تخيّله المحقّق الأصفهانيّ بأنّ هذا العلم الإجماليّ وليد لعلم إجمالي غير صالح للتنجيز، إنّما يصحّ بناءً على الطولية التي تخيّلها المحقّق الأصفهانيّ بأنّ هذا العلم الإجماليّ في طول ذاك العلم الإجماليّ.
ولكن بالإمكان أن نصيغ العلم الإجماليّ بصياغة تتضمّن علمين إجماليّين، أحدهما غير صالح للتنجيز والآخر صالح للتنجيز في عرض واحد، لا أن يكون متولّداً منه. هذه العرضيّة التي اقترحها أو تبنّاها أستاذنا الشهيد، رضوان الله عليه، تكون بصيغة العلم الإجماليّ بوجوب الفعل في يوم الخميس أو حرمته في يوم الجمعة، لكن لا بصورة كون هذا العلم الإجمالي وليداً لعلمين إجماليّين غير صالحين للتنجيز. فإنّه في الحقيقة يمكن صياغة العلم الإجماليّ بصيغة تتضمّن العلم الإجماليّ الصالح للتنجيز والعلم الإجمالي غير الصالح للتنجيز دفعة واحدة وفي عرض واحد. وبهذا، يندفع إشكال المحقّق الأصفهانيّ، رضوان الله تعالى عليه.
هذا كان تكرار درس الماضي أو بعض الدروس الماضية، وأمّا بعد هذا لا بدّ أن نستعرض الإيراد الثاني لأستاذنا الشهيد، رضوان الله عليه، وهذا ما سنبحثه إن شاء الله في الدرس القادم.