46/03/12
الموضوع: الأصول العملية / دوران الأمر بين المحذورين / المقام الثالث: تكرّر الواقعة في التوصّليّين
قلنا سابقاً، وأشرنا بالأمس أيضاً، إلى أنّ هناك ميزتين لو تحقّقت إحداهما أو كلتاهما، لأدّى ذلك إلى إمكان المخالفة القطعيّة في موارد دوران الأمر بين المحذورين، رغم عدم إمكان الموافقة القطعيّة.
إحدى هاتين الميزتين هي التعبّديّة، والأخرى أن يكون الفعل متكرّراً. فإذا تحقّقت الميزة الأولى، أمكن المخالفة القطعيّة بترك قصد القربة؛ فلو أتى بالفعل من دون قصد القربة، فهذا الفعل ليس مطلوباً عند الله ولا يحقّق العبوديّة له. وتتحقّق المخالفة القطعيّة بترك قصد القربة [لعدم امتثال الواجب مع قصد القربة وعدم ترك الحرام]. وإذا كان الفعل متكرّراً، يمكنه أيضاً المخالفة القطعيّة بالفعل تارةً، والترك أخرى في المفردات المتكرّرة.
هذا ما ذكرناه سابقاً وأشرنا إليه في الدرس الماضي. وقد قلنا إنّ أستاذنا الشهيد، رضوان الله تعالى عليه، عقد أربع مقامات:
المقام الأوّل: فيما إذا لم تحصل أيٌّ من هاتين الميزتين.
المقام الثاني: فيما إذا تحقّقت إحدى الميزتين، وهي العباديّة.
المقام الثالث: فيما إذا تحقّقت الميزة الأخرى، وهو التكرّر.
المقام الرابع: فيما إذا تحقّقت كلتا الميزتين معاً (العباديّة والتكرّر).
انتهينا من المقام الأوّل والثاني قبل التعطيل، والآن علينا أن نبدأ بالمقام الثالث، وهو تكرّر الواقعة في التوصّليّين. يعني أنّه يوجد ميزة التكرّر دون ميزة التعبّديّة. ومثاله: لو تعلّق نذر شخص بفعل شيء في يوم الخميس ويوم الجمعة معاً، أو بتركه فيهما معاً، ثم نسي. هذا تكرّر، والنذر تعلّق بيومين، ولكن لا يدري هل نذر الفعل أو الترك. ولنفترض أنّ هذا الفعل بطبعه ليس عباديّاً، مثل أكل الرمّان.
أشرنا سابقاً إلى أنّه يمكن مخالفته القطعيّة، وذلك بأن يفعل في أحد اليومين ويترك في اليوم الآخر. هنا، طرح أستاذنا الشهيد رضوان الله عليه، البيان الفنّي للمخالفة القطعيّة، وقال: يتولّد من العلم الإجماليّ المذكور – بأنّه يجب عليه إمّا أكل التفاح في هذين اليومين أو يحرم عليه فيهما – علمان إجماليّان آخران:
العلم الإجماليّ الأوّل: هو العلم الإجماليّ بأنّ هذا الفعل إمّا واجب في يوم الخميس أو حرام في يوم الجمعة. فإذا تعلّق نذره في الواقع بالأكل في كلا اليومين، يكون أكل يوم الخميس واجباً؛ لأنّه جزء من نذره. وإذا تعلّق نذره في علم الله بالترك في كليهما، فيكون حراماً في يوم الجمعة؛ لأنّه أحد جزئي نذره. إذن، إجمالاً، إمّا يجب هذا الفعل في يوم الخميس أو يحرم في يوم الجمعة.
العلم الإجماليّ الثاني: يعلم إجمالاً بأنّه إمّا يحرم الفعل في يوم الخميس أو يجب في يوم الجمعة. هنا يتم تبادل الوجوب بالحرمة والحرمة بالوجوب.
هذان العلمان الإجماليّان، كلّ واحد منهما وحده قابل للموافقة القطعيّة وأيضاً قابل للمخالفة القطعيّة، ولكن لا يمكن موافقتهما القطعيّة أو مخالفتهما القطعيّة معاً؛ لأنّ أحدهما معاكس للآخر.
الموافقة القطعيّة لأحد هذين العلمين الإجماليّين تكون بالفعل في يوم الخميس والترك في يوم الجمعة، وفي العلم الإجماليّ الثاني، بعكس ذلك. يعني أنّ الموافقة القطعيّة في العلم الإجماليّ الأوّل تنافي الموافقة القطعيّة في العلم الإجماليّ الثاني، فلا يمكن موافقتهما القطعيّة معاً.
فماذا يفعل المكلّف في هذه الحالة؟
قد يقال بأنّه، ما دام لا يمكن الموافقة القطعيّة فيهما معاً، فإنّ الموافقة القطعيّة قد تعذّرت فيهما معاً – وإن كانت في كلّ منهما ليست متعذّرة – فنتنازل عقلاً من الموافقة القطعيّة إلى الموافقة الاحتماليّة.
يوجد في محلّه مبحث حول أنّ كلّ علم، حتّى العلم التفصيليّ، إذا تعذّر العمل به، فنتنزّل منه إلى الموافقة الاحتماليّة، والعقل يحكم بذلك.
فهل هذا صحيح هنا أم لا؟ وماذا نصنع؟
أستاذنا الشهيد رضوان الله عليه، عقد الكلام في أمرين:
الأمر الأوّل: هل كلّ واحد من هذين العلمين الإجماليّين صالح للتنجيز وحده دون ضمّ العلم الإجماليّ الثاني؟
الأمر الثاني: بعد قبول الأمر الأوّل، كيف نتعامل بافتراض عدم إمكان الموافقة القطعيّة لهما معاً؟ فهل نتنازل كما ذكر أو لا؟
في الأمر الأوّل، نقل أستاذنا الشهيد الرأي المخالف للمحقّق الأصفهاني رضوان الله عليه، حيث يقول: إنّ كلّاً من هذين العلمين الإجماليّين هو بطبعه غير صالح للتنجيز، وليس فقط عندما ينضمّ أحدهما إلى الآخر. وهذا ما سيأتي بحثه إن شاء الله في الدرس القادم.