46/03/11
الموضوع: الأصول العملية / دوران الأمر بين المحذورين / المقامات الأربع في البحث
كان البحث في دوران الأمر بين المحذورين وهذا البحث لعلّه قد عبّر عنه المشهور بأصالة التخيير؛ لتصوّر أنّه متى ما دار الأمر بين المحذورين (بمعنى أنّ الفعل الواحد إمّا هو واجب أو حرام، أو علمنا إجمالاً بأنّ هذا الفعل إمّا واجب أو حرام) فهذا ينتهي دائماً إلى التخيير بين الفعل والترك، فسمّوا ذلك بأصالة التخيير في مقابل أصالة البراءة. بينما أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه ينبّه على أنّه إنّما ينتهي الأمر إلى التخيير بين الفعل والترك فيما إذا لم يمكن تحقيق طريق ثالث وذلك بالمخالفة القطعيّة.
(نعم) الموافقة القطعيّة لا تمكن؛ لأنّها تستدعي أن يفعل ويترك معا وهذا مستحيل، (أمّا) إذا أمكنت المخالفة القطعيّة فيدور الأمر بين ثلاثة أمور لا بين الفعل والترك فقط ولكن قد يستغرب أنّه كيف يمكن المخالفة القطعيّة؟
قد يقال: كما أنّ الموافقة القطعية لا يمكن، كذلك المخالفة القطعية لا يمكن. ولكن عند وجود إحدى تلك الميزتين يمكن المخالفة القطعيّة. وإحداهما عبارة عن التعبّديّة، أي إذا كان الفعل أو الترك أو كلاهما تعبّديا يشترط فيه القربة فبإمكانه حينئذ أن يفعل أو يترك لكن بدون قصد القربة، فإن ترك قصد القربة سواء أ فعل أو ترك لا يكون عمله مطلوبا لله تبارك وتعالى وهذا يعني إمكان المخالفة القطعيّة للطرفين اللذين يعلم بأنّ واحدا منهما مطلوب عند الله هو إمّا الفعل مع القربة وإمّا الترك، فإذا لم يقصد القربة حصلت المخالفة القطعيّة سواء أ فعل أو ترك لم يحقّق المطلوب عند الله.
وهذا يعني أنّه لا يدور الأمر بين الشيئين -إمّا الفعل أو الترك- بل بين ثلاثة أشياء إمّا الفعل أو الترك أو المخالفة القطعيّة وإذا كان كذلك فهذا ليس تخييرا بين الفعل والترك كما لعلّه تخيّله المشهور.
وهذا الكلام لا يصّح فيما إذا أمكنت المخالفة القطعيّة والمخالفة القطعيّة ممكنة فيما إذا كان أحدهما أو كلاهما عباديّا؛ لأنّه لو ترك القربة تحصل المخالفة القطعيّة. هذه هي الميزة الأولى.
والميزة الثانية ما إذا كان ذلك الفعل من الأفعال التي تتكرّر فعندئذ يمكنه أن يترك في بعض الحالات ويترك في بعضها الآخر وبذلك تحصل المخالفة القطعيّة، فيأتي الكلام أيضا في أنّ هذا لا يمكن أن يرجع إلى أصالة التخيير في مقابل أصالة البراءة فهذا ليس تخييرا بين الفعل والترك، بل يوجد طريق ثالث وهي المخالفة القطعيّة.
إذاً فمتى ما وجدت إحدى هاتين الميزتين لم تصحّ فكرة أصالة التخيير بين الفعل والترك بل يوجد طريق ثالث.
ولهذا عقد أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه عدّة مقامات لتوضيح أنّه متى يوجد إحدى هاتين الميزتين ومتى لا يوجد شيء منهما. ففي المقام الأول بحث الحالة التي لا يوجد فيها شيء منهما، وفي المقام الثاني بحث الحالة التي توجد إحداهما وفي المقام الثالث بحث عكس الحالة الثانية. وقد بحثنا هذه المقامات الثلاث وانتهينا من المقام الثاني، والآن لا بدّ لنا أن نبدأ في المقام الثالث.
وهذه المقامات الثلاثة لا بأس أن نعيد توضيح عناوينها:
المقام الأول عنوانها: عدم تكرّر الواقعة في التوصّليّين. فعدم تكرّرها يعني أنّ ميزة تكرّر الواقعة ليس موجودة. و(في التوصّليّين) يعني ليس تعبّديّاً أي أنّ الميزة الأولى أيضاً مفقودة. فعقد المقام الأوّل للحالة التي لا يوجد شيء من الميزتين. فيتثبّت القول بأنّ هذا يرجع إلى التخيير بين الفعل والترك.
المقام الثاني: عدم تكرّر الواقعة في التعبّديّة، فـ(عدم تكرّر الواقعة) انتفاء لإحدى الميزتين، ولكن (في التعبّديّة) يعني أنّ ميزة التعبّديّة موجودة وبالتالي يمكن المخالفة القطعيّة وإذا أمكنت المخالفة القطعية، فلا يكون الأمر بين الفعل والترك، فلا يمكن أن نقول إنّ هذا يرجع إلى أصالة التخيير بين الفعل والترك.
والمقام الثالث بعكس المقام الثاني وهو: تكرّر الواقعة ولكن في التوصّليّين، فميزة التكرّر موجودة ولكنّ الميزة الأخرى غير موجودة وبالتالي لا ينتهي الأمر إلى التخيير بين الفعل والترك بل يوجد طريق ثالث وهو المخالفة القطعيّة.
وبحثنا مفصّلاً في كلّ من المقام الأوّل والثاني وانتهينا إلى المقام الثالث وسنبدأ به في الدرس القادم إن شاء الله.