الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الرجال

38/04/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: معنى الصحة.

     تحقيق معنى صحيح.

في مسألة الحاجة إلى علم الرجال قلنا انه في كل العلوم والمسائل هناك آراء سواء بالإيجاب او بالنفي وهذا شيء طبيعي، لكن لكل مسألة مفتاح هذا المفتاح ان لمسته وعرفته تكون قد عرفت الجزء الكبير من المسألة، مثال على ذلك: مسألة استعمال اللفظ في اكثر من معنى في علم الاصول، هذه المسألة فيها الاخذ والرد الكثير، تستمع لمن يقول بجواز الاستعمال يقول لك: الاستعمال علامة ولا مانع من جعل الشيء علامة لأكثر من معنى فتقول في نفسك: الحق معه، ثم تسمع لمن يقول بعدم جواز الاستعمال لذهابه إلى ان الاستعمال فناء، فتقول في نفسك: الحق معه. مفتاح المسألة هو شيء واحد او نقطة عندها يكون افتراق الآراء.

مفتاح المسألة في استعمال اللفظ في اكثر من معنى هي: هل يوجد فرق بين العلامة او الفناء، أي استعمال اللفظ علامة على المعنى أو فناء في المعنى. هذه المسألة إذا استوعبناها جيدا ما معنى الفناء؟ وما معنى العلامة والاستعمال ما هو؟ حينها نحن نستطيع كعقلاء تصور الموضوع ويستطيع من لديه رؤية أن يأخذ موقفا.

الذي وجدته في مسألة الحاجة إلى علم الرجال هو ما معنى الصحة عند القدماء؟

لماذا كان المفتاح في هذه النقطة؟ لأني وجدت ان علماء هذا العلم انقسموا إلى توجهين: منهم من قال بالحاجة إلى علم الرجال، ومنهم من قال بعدم الحاجة.

الذين قالوا بعدم الحاجة إلى علم الرجال قالوا بان هذه الكتب الاربعة أي الكافي، ومن لا يحضره الفقيه، والتهذيب، والاستبصار للطوسي قطعية الصدور ثابتة والدليل على ذلك قول نفس المؤلفين وغير المؤلفين كـ " اليها المرجع وعليها المعوّل "، وغير ذلك من الأدلة التي سنذكرها، فلذلك الكتب الاربعة قطعية الصدور فلا داعي لعلم آخر يثبتها، أي لا داعي لعلم الرجال. ومع القطع بالروايات الواردة في الكتب الاربعة ينحل العلم الاجمالي بوجود الاحكام الشرعية في مختلف الروايات وفي مختلف الكتب إلى علم تفصيلي بوجودها في الكتب الاربعة وشك بدوي في غيرها، ويكتفى بذلك.

والذي قال بالحاجة إلى علم الرجال، اراد ان يدفع قطعية الكتب الاربعة قال هناك قرائن عند الشيخ الصدوق وعند الشيخ الطوسي والكليني اتكلوا عليها، لكن من قال ان القرينة التي قامت عنده ستكون حجة عليّ؟

هنا إذا رجعنا إلى كلام لم يقل بالحاجة إلى علم الرجال تراه معقولا، وإذا رجعنا إلى كلام من يقول بعدم الحاجة تراه ايضا معقولا وترى ان هناك قرائن. لكن لاحظت شيئا وهو ان من قال بعدم الحجة وثبوت هذه الاخبار كالحرّ العاملي استشهد بنفس أقوال المؤلفين كقول الكليني " وبالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام "، وقول الصدوق " من كتب عليها المعوّل واليها المرجع " مما جعلني أعتقد أن توضيح معنى كلمة " صحيحة " عندهم والمراد منها هو مفتاح المسألة. حينما نعلم ما معنى كلمة صحيحة او ما المراد منها. فإذا كان المراد منها الثابت تكون شهادة منهم بالتواتر والثبوت، اما إذا كان معنى الصحيح بمعنى المعتبر عنده ويفتي بها بينه وبين ربّه، حينها من قال ان دليلك سيكون تاما عندي؟!.

هذه القرائن التي ذكرتها من فال انها بالنسبة لي إذا قامت تكون حجة ودليلا عندي؟!.

فإذن مفتاح المسألة ما معنى كلمة " الصحيحة " التي وردت في كلام الشيخ الكليني والشيخ الصدوق أو القدماء.

قلنا ان الصحيح له ثلاثة احتمالات: بمعنى الصادر، وبمعنى الحجة والمعتبر، وبمعنى التقسيم الحديث: وهو اخبار عدل عن عدل.

والظاهر ان المراد من الصحيح عند القدماء هو الثاني أي المعتبر والحجة، لأمور:

الاول: لاحظ كلام الشيخ الطوسي في كتاب العدّة وفي الاستبصار حيث قال: " أن أحاديث كتب أصحابنا المشهورة بينهم ثلاثة أقسام: منها ما يكون الخبر متواترا، ومنها ما يكون مقترنا بقرينة موجبة للقطع بمضمون الخبر، ومنها مالا يوجد فيه هذا ولا ذاك ولكن دلت القرائن على وجوب العمل به، وأن القسم الثالث ينقسم إلى أقسام: منها خبر أجمعوا على نقله ولم ينقلوا له معارضا، ومنها ما انعقد إجماعهم على صحته وأن كل خبر عمل به في كتابي الاخبار وغيرها لا يخلو من الأقسام الأربعة. [1] انتهى كلامه رفع مقامه.

لاحظ ان القسم الثالث مظنون الصدور لكن دلت القرائن على وجوب العمل به كالخبر الواحد الذي هو حجة ويجب العمل به للأدلة التي ذكرت في وجوب العمل بالخبر الواحد.

وقوله (ره): " منها خبر أجمعوا على نقله ولم ينقلوا له معارضا "، ذكرت هذا الكلام لان الذين قالوا بثبوت الكتب الاربعة، وتكلوا على قرائن ككلام، الم يلاحظوا ان كلام الشيخ الصدوق: " عليها المعول واليها المرجع ". لكن الاجماع على النقل ليس اقل من كلمة " عليها المعول "؟!، ومع ذلك الشيخ الطوسي قال: " يحتاج إلى قرينة ودليل على الاعتبار " ؟!. وقال: " اجمعوا على نقله "، ومع ذلك تحتاج إلى دليل على الاعتبار؟!.

فإذن كلمة " عليها المعول واليها المرجع " التي استدلوا بها على ثبوت روايات من لا يحضره الفقيه وعلى كل كتاب اخذ منه الشيخ الصدوق، اكثر من اثنين وثمانين كتابا التي ذكرها بالاسم وغيرها، حوالي مئة كتاب. وهذا يعني عندهم ان كل الكتب صحيحة. اخذوا هذه العبارة التي تدور عليها الرحى، رحى الاستنباط في تلك الايام والاخذ بالفتوى.

فإذا كانوا قد اجمعوا على نقل الخبر، ومع ذلك فهذا الخبر الخاص يحتاج إلى قرينة ودليل على الاعتبار عند الشيخ الطوسي الذي هو احد اصحاب الكتب الاربعة، فما بالك بكلمة " عليها المعول " ؟!. وسنرى معنى هذه الكلمة.

وقوله (ره): " ومنها ما انعقد إجماعهم على صحته "، يعني ان هناك تعبيرين، يعني ان الصحة غير النقل. الصحة بمعنى الاعتبار والحجية لا بمعنى الصدور.

إذن نستفيد من هذا الكلام عدّة امور:

منها: ان الصحيح غير المنقول. إذن أراد الشيخ الطوسي (ره) من الصحيح غير الصادر، بدليل انه جعلهما قسمين.

ومنها: أن ما أجمعوا على نقله وهو القسم الاول من القسم الثالث غير قطعي الصدور رغم الاجماع على نقله، وهذا يعني أن ما ذكره بعض الفضلاء من كون كلام الشيخ الصدوق (ره) بأن أخذ احاديثه من كتب " عليها المعوّل واليها المرجع " لا يعني أبدا قطعية صدورها، إذ اجماعهم على نقلها لم يؤدّ إلا إلى ظن بالصدور عند الشيخ الطوسي، فما بالك بكونها مجرد " عليها المعول واليها المرجع "، وهذه العبارة تعني احترام هذه المصادر وصدورها إجمالا، ثم بعد ذلك لا بد من ملاحظة كل خبر منها على حدة، وقد صرّح (ره) بذلك حيث قال في كثير من احاديث التهذيب التي يتعرّض لتأويلها ولا يعمل بها، " هذا من اخبار الآحاد التي لا تفيد علما ولا عملا ". بالنتيجة ليست قطعية الصدور ولا قطعية المضمون على مبناه، فإذن كلامكم بعد الف سنة بانها قطعية المضمون غير سليم.

يقول صاحب الوسائل (ره) تعليقا على تعبير الشيخ الطوسي في التهذيب: " فعُلم أن كل حديث عمل به فهو محفوف بقرائن تفيد العلم أو توجب العمل" [2] . يعني اما علم أو عمل، والعمل به يعني كونه مظنون الصدور وقد قام الدليل على اعتباره على مبانيهم. وحينئذ من قال ان مبانيك سأسلّم بها، هذا اجتهادك. وهنا إذا استطعنا ان نثبت ان هذا اجتهاد منهم، فنقول: اجتهادهم حجة عليهم، ونقلهم حجة علينا.

اما كلام الصدوق رئيس المحدثين محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (ره) في اول كتاب " من لا يحضره الفقيه " [3] : " ... فاجبته إلى ذلك لاني وجدته له أهلا، وصنفت له هذا الكتاب بحذف الاسانيد لئلا تكثر طرفه وإن كثرت فوائده، ولم أقصد فيه قصد المصنفين إلى ايراد جميع ما رَووه، بل قصدت إلى ايراد ما افتى به واحكم بصحته، واعتقد أنه حجة بيني وبين ربي جلّ ذكره. وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعوّل واليها المرجع ..." [4] انتهى كلامه رفع مقامه.

صاحب الوسائل (ره) استفاد ثبوت الروايات الموجودة في كتاب " من لا يحضره الفقيه " بشهادة المؤلف نفسه، أي الصحة بالمعنى الاول وهو الصدور [5] . ولعلّ استفادة الحر العاملي (ره) لثبوت الحديث من تعبيرين لديه:

الاول: قوله " ما افتي به واحكم بصحته ".

الثاني: " وجميع ما فيه مستخرج من كتب عليها المعوّل واليها المرجع ".

ولذلك قال صاحب الوسائل (ره): وهو صريح في الجزم بصحة أحاديث هذه الكتب والشهادة بثبوتها.

وفيه: شهادة بصحة الكتب المذكورة وغيرها مما اشار اليه وثبوت احاديثها.

وهنا نناقش صاحب الوسائل أعلى الله مقامه فنقول: أما التعبير الاول " ما افتي به واحكم بصحته " فقد صرّح – أي الصدوق (ره) – بان المراد من الصحة مما يفتي به ويعتقد انه حجة. ومعنى الحجة بمعنى المعتبر، والإعتبار بقرائن وادلة. لكن قد يكون مظنون الصدور ولكن قامت القرينة لديه على وجوب العمل به. وهذا المظنون خبر الواحد، وهذا يحتاج إلى ادلة لوجوب العمل به كسيرة العقلاء والآيات القرآنية إلى آخره، فصار مثلنا مثله في ان هذا الخبر الموجود في هذه الكتب مظنون الصدور، ولكنه هناك قرائن على وجوب العمل به بالادلة التي ذكروها وان كانت ظنية. فلننظر حينئذ إلى هذه القرائن، لان حدسه ليس حجة علينا رغم احترام الشخص الكبير عندنا.

التعبير الثاني: " من كتب عليها المعوّل وإليها المرجع " وقد استفاد منها الحرّ (ره) ثبوت كل الاحاديث الموجودة في تلك الكتب، ولكن هو يقول (ره) في نفس الصفحة من الوسائل: " ان غيره - أي غير الصدوق – اوردوا جميع ما رووه، ورجحوا احد الطرفين ليعمل به كما فعل الشيخ في التهذيب والاستبصار، ولا ينافي ذلك ثبوت الطرف المرجوح عن الأئمة (ع) كما لا يخفى. [6]

وهنا نقول: هو ايضا لا ينافي عدم ثبوته لان المتعارضين [7] هما المتكاذبان في مقام الجعل، فقد يكونا او احدهما غير صادر، وقد يكونا صادرين وورد احدهما تقيّة أو لأمر آخر. ولذا فالترجيح تابع لاجتهاد الفقيه والمرجحات عنده، ولا يعني ابدا ثبوت كل الاحاديث المتعارضة وصدورها.

ولذلك يقول صاحب الوسائل (ره): واما الصدوق فلم يورد المعارضات إلا نادرا. وهذا يعني انه عاد إلى اجتهاده في تفسير المتعارضين وترجيح احدهما. وبالنتيجة نحن ملزمون بنقله لا باجتهاده. [8]

واما عبارته :" من كتب عليها المعوّل واليها المرجع " فسنبيّنها غدا ان شاء الله تعالى.


[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج20، ص65، الاسلامية.
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج20، ص65، الاسلامية.
[3] هامش الوسائل: الفقيه: ج1ص2 - قال الشيخ الامام الفقيه السعيد أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي الفقيه نزيل الري مصنف هذا الكتاب اما بعد: فإنه لما ساقني القضاء إلى بلاد الغربة وحصلني القدر منها بأرض بلخ من قصبة إيلاق وردها الشريف الدين أبو عبد الله المعروف بنعمه وهو محمد بن الحسن بن إسحاق بن الحسين بن الحسين بن إسحاق بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ( ترجمه السيد الأمين في الأعيان ج7 ص25 نقلا عن رياض العلماء ) فدام بمجالسه سروري، وانشرح بمذاكرته صدري وعظم بمودته تشرفي لأخلاق قد جمعها إلى شرفه من ستر وصلاح وسكينة ووقار وديانة وعفاف وتقوى وأخبات فذاكرني بكتاب صنفه محمد بن زكريا المتطبب الرازي وترجمه بكتاب (من لا يحضره الطبيب) وذكر أنه شاف في معناه وسألني أن أصنف له كتابا في الفقه والحلال والحرام والشرايع والاحكام موفيا على جميع ما صنفت في معناه وأترجمه بكتاب (من لا يحضره الفقيه) ليكون إليه مرجعه وعليه معتمده وبه أخذه ويشترك في أجره من ينظر فيه وينسخه ويعمل بمودعه الخ.
[4] من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج1، ص2.
[5] نحن نقول ان الروايات الموجودة في الكتب الاربعة وغيرها نقطع بصدور معظمها وليس كلها، وهذا لا يكفي في الحجية. العلم الاجمالي بصدور بعضها، هذا يعنى انها ليست حجة، بل احتاج إلى البحث عن كل فرد فرد، نعم هناك علم اجمالي بصدور بعضها. بالنتيجة إلى الشيخ الصدوق هناك علم اجمالي بحجية بعضها. وهذا لا يجعل هذه الكتب جميعا قطعية الصدور بكل مفرداتها.
[6] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج20، ص62، الاسلامية.
[7] التزاحم هو التنافي في مقام الامتثال. التعارض هو التنافي في مقام الجعل.
[8] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج20، ص62، الاسلامية.