الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الرجال

37/08/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: علم الرجال.

مقدمة تفيد بصيرة.

بعد الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطاهرين.

علم الرجال علم لا يعسر ان يحصله الانسان وحده وذلك كعلم السيرة والتاريخ وليس كعلمي الاصول والفلسفة التي تحتاج تحصيلها غالبا لمدرِّس والتدريس والبحث. علم متناوله ليس بالصعب، نعم يحتاج إلى التفاتات كثيرة، لذلك لم يكن في النجف الاشرف يأخذ كدروس الاصول والفقه والنحو والمنطق. لكن مع الايام بدأ يدرَّس كدرس مستقل وكعلم له قواعده.

لذلك لا بأس بمقدمة ومصطلحات تفيد بصيرة في الشروع وتنفع في كل العلوم؛ وهي تتمثل على معرفة مفردات ألفاظ العنوان: علم الرجال، والمراد: " علم رجال الحديث "، أي من يقع في سند الأحاديث الشريفة التي تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الفرعي والامور الشرعية الأخرى.

تعريف العلم: وهو انطباق صورة الشيء في الذهن، ثم نقلت إلى مجموعة من المسائل التي تشترك نتيجتها في غرض واحد مثل علم الطب والهندسة وغيرها من العلوم، وذلك على نحو الاشتراك اللفظي، أي من دون هجران المعنى الأول.

العلم في الاصطلاح: هو أمر اعتباري [1] نشأ لمصلحة وغرض فالمنشئ للعلم يتصور غرضا وغاية، ثم يجمع المسائل التي تصب نتيجتها في هذا الغرض. وسينفع هذا التعريف في الجواب على من قال أن العلم عبارة عن قواعد، ولا بحث عن موضوعات جزئية، فيخرج علم الرجال الذي يبحث عن احوال أشخاص، مثلا: زرارة بن أعين، وجميل بن دراج، ووهب بن وهب، ثقة أو لا؟ فالكلام هو عن اشخاص، عن مسألة جزئية، هل الكلام عن اشخاص يعتبر علما؟ [2]

الفرق بين العلم والفلسفة والفن: الفلسفة في الأساس مجموعة تساؤلات يجمعها غرض، فإذا بقي معظمها من دون تسالم فهي فلسفة، ومع التسالم على كثير منها فهي علم. أما الفن فهي مسائل يتحكم فيها الذوق.

ولذلك كان علم الكيمياء فلسفة وكان اسمه الخيمياء تبحث عن إكسير الحياة وكيفية تحويل المعادن الخسيسة إلى ثمينة. ثم انتقل على يد جابر بن حيان الكوفي تلميذ الامام جعفر الصادق (ع) لتصبح علما. فكل علم يبدا فلسفة ليصبح علما، ولذلك فمثل علم الاجتماع وعلم النفس لا يزال في مرحلة الفلسفة، أي في مرحلة التساؤلات والفرضيات.

المميز بين العلوم: إذن هي الغايات والاغراض التي لأجلها أنشئ العلم ولا مانع من وجود مسألة واحدة يترتب عليها غرضان، فتدخل في علمين. وبيّنا وناقشنا في أن الموضوعات والمحمولات والحيثيات ليست من هي التي تميّز العلوم عن بعضها البعض.

العلوم آلية واستقلالية: العلم الآلي هو الذي ينشأ لخدمة علم آخر، كعلم التشريح،MORPHOLOGIE الذي أنشأ لخدمة علم الطب، وهكذا علم الرجال هو علم آلي أنشئ لخدمة علم الفقه. ويقابل العلم الآلي العلم الاستقلالي.

المسألة والقاعدة: القضية سواء كانت حمليّة أم شرطيّة، إذا كانت نافعة في الغرض فهي بنفسها قبل ثبوتها مسألة، وبعد ثبوتها قاعدة. لذلك الذي ينشأ العلم يجمع المسائل وبعد دراستها وثبوتها تصبح قواعد.

المسألة قد تكون جزئية وقد تكون كليّة: كل قضية تنفع في الغرض حتى ولو كانت جزئية فهي من العلم، وأما ما جرى على الألسن من اشتراط كون المسألة كليّة بمعنى أن يكون موضوعها كليا فهو من لزوم ما لا يلزم. لذلك اشكلوا على علم الرجال بانه ليس بعلم لأنه يبحث في الجزئيات، وجوابه صار واضحا.

المبدأ التصوري والتصديقي: المبدأ التصوري هو كل ما ينفعني في تصور موضوعات المسائل ومحمولاتها وأغراضها والنسب بينها.

مثلا: تنقيح كلمة " ولد "، وذكرنا سابقا أن ولد الزنى هل يصدق عليه "ولد " ام يكون " لغيّة " كما عند بعض أبناء العامة، فيجوز للرجل أن يتزوج ابنته من الزنى ولا تشملها كل احكام الولدية من حرمة الزواج منها ووجوب النفقة والارث وتحرم المرضعات إلى آخره. [3]

والمبدأ التصديقي: هي كل ما ينفعني في إثبات وتصديق المسائل، المسلّمات. [4]

تعريف علم الرجال: هو علم يبحث في أحوال رواة الأحاديث من العمل بالرواية، وبهذا يختلف عن علم التاريخ والسيرة والتراجم. وهنا لا بأس بالإشارة إلى أن اضافة العلم إلى الرجال من باب التغليب، وإلا فكثير من الرواة نساء.

الفرق بين علم الرجال، وعلم السيرة، وعلم التاريخ، وعلم التراجم [5] : هذه العلوم متداخلة إلى حدّ كبير، وتشترك بأن معظم مسائلها ذات موضوعات جزئية، أي تبحث عن أحوال أناس بخصوصهم؛ لكنها تختلف من حيث الغايات والأغراض.

فعلم الرجال يبحث في رجال الحديث بما ينفع في استنباط حكم شرعي أو أمر ديني من خلال الحديث. ولذا لا يبحث في عادات الشخص ولا في ما يأكل ويشرب ومن تزوج، ولا غير ذلك من العادات والاوصاف والتصرفات الشخصية التي لا يؤثر معرفتها بقبول روايته والأخذ بها، بينما يدرس فيه مسألة الوثاقة، والعدالة، والضبط، وكثرة الرواية وغير ذلك مما له اثر في الأخذ بالرواية.

أما علم السيرة: فهو يبحث عن أحوال أشخاص معينين والبحث بتصرفاتهم الشخصية أو العامة، وفي طباعهم ، وأوصافهم ومسلكهم وعاداتهم بما يناسب الغرض من تدوين سيرته. ولذا قد يكون علما آليا كما في تدوين تفاصيل حياة النبي (ص) والائمة (ع) حيث أمرنا بالتأسي بهم، ) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ( [6] . نعم يجب المتابعة والتأسي في خصوص شخصيته النبي الأكرم (ص) والامام (ع) الرسالية والنبوية دون غيرها، حيث إن للنبي (ص) عدّة شخصيات: النبي رسول ونبي ورأس العقلاء وابن العرف العام وابن العرف الخاص وله أيضا ميزاته الشخصية. وقد ذكرنا هذا البحث في مقدمة بحث الفقه فلا نعيد.

اما علم التراجم: فهو البحث في أحوال أشخاص لهم ميزة ودور إجتماعي أو ثقافي أو سياسي، ممن لهم أثر في مجتمعهم من حيث العلم أو السلطة او الفن، كالفقهاء والادباء والمميزين في بقية العلوم والسلاطين.

ولذلك كان البحث في علم التراجم عن الاشخاص من حيث دورهم، أما البحث في الوثاقة والصدق والكذب والعدالة وغير ذلك مما له دخالة في الاخذ بأخباره فليست من العلم إلا أن يكون له دخالة في الدور.

وقد كان علم التراجم وعلم الرجال والسير علوم متداخلة سابقا، وكان أصحاب الكتب يدرجون الرواة مع العلماء والفقهاء والشعراء، ولعلّ اول من فصل بينها الحرّ العاملي في " امل الأمل في احوال علماء جبل عامل ".

غدا ان شاء الله نكمل.

 


[1] وليس امرا تكوينيا ولا واقعيا ولا انتزاعيا، بل هو امر اعتباري محض. العلم الاعتباري هو العلم الذي ليس له واقع حقيقي بل هو مجموعة مسائل تنفع في الغرض الذي لأجله أنشئ العلم.
[2] نذكر هذه الفوارق لانها المدماك الاساس في تأسيس العلوم، وتبويب هذه المسألة مسألة مهمّة والتبويب له ثمرة في فهم مسائل العلم ووضوحه، لان بعض العلوم قريبة من بعضها البعض ويمكن ان تتداخل، ولا مانع من تتداخلها، وقد تكون مسألة واحدة في علمين لأنها تحقق الغرضين، تكون المسألة نفسها من هذا العلم ومن ذاك العلم ايضا ولا مانع من التداخل.
[3] كما حدث في قطر أن قاضيا حكم بجواز الزواج منها.
[4] هذه التعريفات ذكرت في مقدمة تقريرات بحث الأصول بتفصيل أكثر.
[5] التمييز بين العلوم شيء مهم في التبويب لتحديد موقع المسألة في أي علم هي، هذا التبويب ينشأ حالة من وضوح الرؤية عند الطالب. وكل علم عبارة عن آلة ثم آلية ثم اجتهاد ثم ابداع. الآلة وهي فهم المفردات والمسائل، والآلية هي استعمال هذه المفردات، والاجتهاد هو الرؤية الواضحة عند الشخص.
[6] سورة الاحزاب/آية21.