الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

45/12/06

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية، البراءة.

 

     الأمور التي يجب تنقيحها وملاحظتها.

     هل الأمثلة وكلها في الشبهات الموضوعية تمنع الدلالة على الاطلاق أو العموم الشامل للشبهتين الحكمية والموضوعية؟

     المراد من كلمة "يستبين" وكلمة "بينة" وكلمة "بعينه".

     كلمة بعينه هل وردت على نحو التأكيد أو التأسيس؟

     الظاهر عند دوران الأمر بين التأكيد والتأسيس هو التأسيس.

     يمكن ان ترد كلمة "بعينه" في الشبهات الحكمية المقرونة بالعلم الإجمالي.

 

إذن جميع الأمثلة في هذا الحديث وردت في الشبهات الموضوعية، ومن هنا ذهب بعضهم إلى ان هذه الاحاديث لا تدل على أصالة البراءة في الشبهات الحكمية، وفي بالي ان منهم الشيخ الانصاري (ره).

على الأقل قد يقال ان هناك احتمال كبير يمنع ظهور "كل شيء" في العموم الذي يشمل الشبهتين الحكمية والموضوعية، فيكون خاص بالموضوعية، فاحتمال القرينية موجود مما يرفع ويمنع الظهور في العموم، وقلنا ان الظهور أمر وجودي وهو الحجّة ومع وجود احتمال القرينة يرتفع الظهور، فلا عموم للحديث.

اما إذا قلنا ان الظهور أمر عدمي يرجع إلى اصالة عدم القرينة يبقى للعموم اطلاق، لان الأصل عدم القرينة وهنا اشك في القرينيّة فيبقى العموم على اطلاقه.

فتكون الثمرة في التفريق بين الرجوع إلى كون الظهور أمرا وجوديا أو أمرا عدميا، هي في بقاء الاطلاق أو نفيه.

الموجود هو الظهور، واصالة الحقيقة، واصالة العموم واصالة الاطلاق، هي صغريات ترجع إليه، لا يوجد شيء اسمه اصالة الحقيقة والعموم والاطلاق، ومع احتمال القرينية ولا يوجد أيضا اصالة عدم القرينية، إلا من باب الأصل العملي أي استصحاب العدم النعتي، الموجود الظهورات فالعقلاء عندما يسمعون اللفظ هل يرجعون لاحتمال القرينة او احتمال عدم القرينة حتى يصلوا للظهور؟ الجواب بالنفي يرجعون للظهور فهو أمر وجودي وليس أمرا عدميا، ولذا فأصالة الاطلاق واصالة العموم هي أمور وجودية، وان كان القدماء خصوصا يقولون ان يرجع إلى أصالة القرينة أو عدم القرينية.

قد يقال: إن لفظ "كل شيء لك حلال" يشمل بالاطلاق الحكم والموضوع؟

فإنه يقال: أما أن تكون الأمثلة قرينة على الظهور في خصوص الشبهة الموضوعية، وإما أن تكون مانعة للظهور في العموم والاطلاق، فنقتصر على القدر والمتيقن منها وهو الشبهات الموضوعية.

فإذن هذه الأمثلة يمكن أن تكون تمنع الرواية عن الدلالة على اصالة البراءة في الشبهات الحكميّة، فتقتصر على الشبهات الموضوعية.

نعم، هناك معنى آخر، وهو المعنى اللغوي، أي عدم القيد والسعة والحرية ليس عليك قيد في الفعل وعدمه، فإن المراد من الحلية في: "كل شيء لك حلال" أحد ثلاثة أمور:

     الحليّة المستندة إلى الموضوع، فتكون الشبهة موضوعية كما بيّنا في الأمثلة وتكون الرواية خارجة عن محل الكلام وهو الاستدلال بها على البراءة في الشبهة الحكميّة.

     الحليّة المستندة إلى أصل البراءة، فتكون عامّة تشمل الشبهات الحكميّة.

     الحليّة بالمعنى اللغوي، أي السعة والحرية وعدم القيد، وهي من حيث النتيجة تشمل عمليا كل شيء ومنه أصل البراءة في الشبهة الحكميّة، من دون ان تكون دليلا عليها بالخصوص.

النتيجة: في القول اللغوي وإذا كانت الحليّة مستندة إلى الحكم لا للموضوع فان الرواية تؤدي في الشبهات الحكميّة.

النقطة الثانية: ما المراد من البيّنة في قوله (ع): "والاشياء كلها على هذا حتى تستبين أو تقوم به البيّنة".

الظاهر من كلمة "تستبين" هو الوضوح والجلاء، أي حتى تعلم بنحو اليقين والعلم.

أما "البيّنة" فلا يخلو الأمر إما أن يكون المراد منه المعنى الاصطلاحي أي الشاهدين العدلين، أو المعنى اللغوي، أي الدليل، سواء صار متعلقها قطعيا أم ظنيا. وكلاهما محتمل.

إلا أن الذي يقوّي أن يكون المراد هو المعنى اللغوي كثرة الاستعمال فيه مثل ما ورد في كتاب الله: ﴿إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾[1] ﴿لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ﴾[2] وغيرها، مما يجعل إرادة المصطلح الفقهي يحتاج إلى قرينة.

وعلية: فتشمل البيّنة حتى مثل الاستصحاب الأصل العملي، والإقرار، وقاعدة اليد، والشاهد الواحد في الموضوعات.

النقطة الثالثة: كلمة: "بعينه". وهي تحمل احد معنيين: التأكيد والتأسيس

الاول: التأكيد، كـ "رأيت زيدا بعينه" وذلك لرفع توهم رؤية متعلقيه أو أصحابه، وفي علم النحو نسميه بالتأكيد المعنوي [3] .

الثاني: التقييد والتعيين والتشخيص لأمر مجمل بين أمور، وهو الظاهر في المقام، لان الأمر إذا دار بين التأكيد والتأسيس فالاصل التأسيس، والتأكيد ليس فيه بيان لمعنى أساسي، وهو لمجرد رفع الوهم، والاصل عدم التلفظ لذلك بل الأصل التلفظ لبيان معنى لم يكن موجودا.

ومن هنا يقال: أن كلمة: "بعينه" لا تكون إلا في الشبهات الموضوعية، أي أشك مثلا أن هذا المانع خمر أو خل؟ فالحديث يقول: إذا وجدت محرّمات، وشككت في بعضها أنها خلّ فاحكم بالحليّة، إلا أن تتيقن أنه خمر بعينه. فكلمةـ "بعينه" قد تكون قرينة على تشخيص الموضوعات.

أما الشبهة الحكمية فهي تكون في العناوين الكلية، فلا معنى لان أقول: "بعينه" إلا على نحو التأكيد، فإن الشيء إما أن تعلم حرمته، أو لا تعلم، فإن علمت الحرمة يكون الشيء حراما بعينه، وإن لم تعلم الحرمة فالعلم بالحرمة ينتفي أصلا، أي لا علم بالحرمة لا بعينها ولا بغير عينها.

قد يقال: أن التعبير بـ "الحرام لا بعينه" متصوّر في العلم الإجمالي بين حرمتين مجعولتين، وهو ما ذهب إليه الاخباريون.

والانصاف أن هذا النوع من العلم الإجمالي نادر، أو أن يقال إن الترخيص بالطرفين ينافي حينئذ الحرام الواقعي فالترخيص ينافي المعلوم اجمالا، فلا يمكن أن اجري الحرام للطرفين.

ملاحظة: أخّرت الكلام عن فقرة "بعينه" لاشتراك الرواية مع الروايات الأخرى فيها، بخلاف النقطتين الأوليين: "الأمثلة والبينة".

الرواية الثانية: الوسائل: ح 1 - محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن سنان، عن عبد الله بن سليمان قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبن فقال لي: لقد سألتني عن طعام يعجبني ثم أعطى الغلام درهما فقال: يا غلام ابتع لنا جبنا، ثم دعا بالغداء فتغدينا معه فأتي بالجبن فأكل وأكلنا فلما فرغنا من الغداء قلت: ما تقول: في الجبن؟ قال: أو لم ترني آكله قلت: بلى ولكني أحب أن أسمعه منك فقال: سأخبرك عن الجبن وغيره، كل ما كان فيه حلال وحرام ( * ) فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه. ورواه البرقي في ( المحاسن ) عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان مثله . [4]

تأتي في الموسم الدراسي الجديد ان شاء الله.


[1] سورة هود، آية 28.
[2] سورة البينة، آية 1.
[3] التأكيد في النحو على قسمين: تأكيد لفظي مثل زيد زيد، وتأكيد معنوي عرّف عنه بانه ما يؤدي إلى رفع الوهم لغير ما ورد في اللفظ.
[4] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج17، ص91، أبواب الاطعمة المباحة، باب61، ح1، ط الإسلامية.