الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

45/11/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية، البراءة.

 

     من روايات البراءة، احاديث: "رفع عن امتي ما لا يعلمون".

     تقريب الاستدلال بالرواية وانها واردة لبيان الحكم الظاهري.

     لا يمكن ان يكون المراد بالرواية هو الحكم الواقعي، وإلا وقعنا في محذورين: التصويب، ولغوية الاحتياط.

 

نعود لقول رسول الله صلى الله عليه وآله: وضع عن أمتي تسع خصال: الخطأ، والنسيان، وما لا يعلمون وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، وما استكرهوا عليه، والطيرة، والوسوسة في التفكر في الخلق، والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد. [1]

الفقرة الأخيرة فقرة تربويّة، قلنا ان الحسد ليس بيد الانسان بل هو مرض، "تمني زوال النعمة عن الغير" مرض على الانسان ان يعالجه، وفي حال وجوده ليس بيد الشارع رفعه أو وضعه، فرفعه بلحاظ آثاره، في الحسد، لا تدع الحسد يعمل في الجوارح لأنها تحت سيطرة الانسان في الحديث: "ما لا يظهر بيد او لسان" فهي من الجوارح.

وورد في رواية أخرى: "ثلاثة لا يخلو منها نبيّ الحسد والطيرة والوسوسة في التفكر في الخلق، فإذا حسدت فلا تبغ وإذا تطيرت فامض"، فالمعنى ان لا تجعل جوارحك تفعل شيئا، ابق الحسد في جوانحك، في نفسك وامنعه من التسبب باي تصرف، هذا المرض عالجه فإذا حسدت فلا تبغ بيد أو لسان.

انا اعتقد في هذه الرواية الواردة فيها سقط، الساقط: "الا" والمفروض ان تكون: "لا يخلو منها نبي"، فلا نعقل الحسد على الأنبياء، نمطها نمط الروايات التوراتية صنع اليهود. فكيف يطلب منا أن لا نحسد وورد ان الأنبياء يحسدون ويتطيرون ويتوسوسون؟ [2] اعتقد ان هناك خلل في البيان.

تصحيح لما ورد سابقا: "رفع ... الخطأ والنسيان وما لا يعلمون"، تكون في الشبهة الحكمية والموضوعية، الفقرات الست الباقية شبهات موضوعية، فلا معنى لما "اضطروا اليه" ان يكون الرفع في الاحكام، الاضطرار يكون في الفعل الخارجي، وكذلك الحسد والطيرة، كل هذه الأمور تكون في الامتثال أي في الأفعال، بينما في "ما لا يعلمون" يكون في نفس الحكم أو الفعل.

وتقريب الاستدلال بالرواية على أصل البراءة: إن الاحكام الواقعية مرفوعة في مرحلة الظاهر لا واقعا، أي لم ترفع واقعا، بل تبقى في اللوح المحفوظ والواقع أي انها تبقى في عالم الانشاء، ولا تنمحي فيه، وتحت سيطرة الشارع، إلا انه بالنسبة للمكلّف الجاهل تكون مرفوعة وتكن حالة شك حينئذ تبدأ مرحلة الظاهر لا الواقع أي رفع الأثر اعتبارا بلسان رفع موضوعه، وإلا وقعنا في التصويب، فليس المرفوع هو الحكم الواقعي المجهول.

بعبارة اخرى: هل ان الرفع في الحديث رفع واقعي؟ فإذا لم أعلم انشاء حرمة الخمر يرتفع الانشاء الواقعي، أو انه ارتفع ظاهرا مع بقائه في الواقع؟ كلا الرفعين محتمل.

لكننا نقول انه مرفوع في مرحلة الظاهر لا الواقع بقرينتين:

الأولى: قرينة داخلية من نفس الرواية، فان العلم لا بد له من متعلّق معلوم، فعندما يقول: "ما لا يعلمون" أي ان هناك شيئا ثابتا موجودا في الواقع لا اعلمه.

لكن يمكن أن يشكل عليه: بأن هذا الموجود الثابت رفع بالحديث، فيكون الرفع في مرحلة الواقع لا الظاهر، أي كان منشأ ورفع. إذن ما ادعوه انه قرينة داخلية ليس قرينة.

والثانية: قرينة خارجية وهي قاعدة الاشتراك بين العالم والجاهل في الاحكام، وهي تقتضي ثبوت الحكم واقعا بنفسه من دون مدخلية للعلم به. فالحكم الواقعي موجود ثابت في عالم الانشاء، وأما العلم به فله مدخلية في تنجزه أي إذا علمت به تنجز ومعنى التنجيز الذي هو من لوازم العلم، أي أن الحكم وصل إلى نهايته. وبهذا يكون رفعه في عالم الظاهر.

ثم انه لو كان للعلم مدخلية في عالم الثبوت والواقع لأدّى إلى أمرين:

الأول: إلى التصويب [3] ، لأن ما وصل إليه المجتهد عند المصوّبة يؤدي إلى إنشاء حكم على طبقه يكون واقعا بديلا عن الحكم الواقعي الأصلي، وهذا باطل عندنا اجماعا.

وثانيا: وقعنا في الدور وهو اخذ العلم في موضوع الحكم وهو محال.

والثاني: لو كان رفع الحكم في عالم الواقع لانتفى من أساسه، فلا يكون مجال للاحتياط أصلا، إذ لا يوجد احتمال حكم أو مضرّة أو مفسدة كي احتاط بتركها، أو احتمال مصلحة كي احتاط بفعلها، مع العلم أن الاحتياط حسن عقلا وشرعا.


[1] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج11، ص296، أبواب جملة مما عفى عنه، باب56، ح1، ط الإسلامية.
[2] ورد من احد الطلبة الافاضل احتمال ان يكون المحسود هم الأنبياء أي المفعول به:الجواب: ان هذا ممكن لكن يرده ما في الحديث: "إذا حسدت فلا تبغ، وإذا تطيرت فامض" المتطير والحاسد هو الفاعل وليس المفعول به.
[3] التصويب على نوعين: تصويب محال، وهو ان لا حكم إلا ما حكم به المجتهد، أي نفي الحكم الواقعي، إذ ان معنى الاجتهاد هو استفراغ الوسع للوصول إلى حكم، فإذا كان الحكم الواقعي غير موجود، فعن أي شيء يبحث المجتهد؟، هذا هو التصويب المحال. النوع الاخر المعقول من التصويب وهو المشهور عند المعتزلة والاشاعرة وهو ان الواقع موجود والمجتهد يبحث عنه فإذا أصاب كان هو الحكم الواقعي، اما إذا أخطأ فان الله عز وجل ينشأ حكما على طبق رأي المجتهد مع بقاء هذا الحكم في الواقع، والثمرة في الأجزاء، حينئذ العمل على طبق رأي المجتهد يجري ولو أخطأ. بينما المشهور عند الاماميّة ان الاحكام الظاهرية لا تجزي، فالامارة إذا قامت على أمر وكانت مخطئة فلا أجزاء فيجب إعادة جميع الأفعال. ونحن في دروس سابقة فصلنا بين أمرين: مثلا: قلّدت شخصا في ان غسل الجمعة يجزي عن الوضوء، وبعد وفاته قلّدت شخصا آخر يقول بعدم الإجزاء، ما حكم الصلوات التي صليتها؟ بناء على التصويب الأول فلا مجال للقول بالخطأ، وعلى الثاني بان الله عز وجل ينشئ حكما على طبق رأي المجتهد فالصلاة صحيحة لانه واقعا بغسل يوم الجمعة هو على طهارة. بينما لو قلنا بان الواقع ليس كذلك فالاجزاء تحتاج إلى دليل، لذلك يجب إعادة كل الصلوات التي صلّاها بناء على تقليد المجتهد الأول. وهذا هو المشهور عند الاصحاب انه لا أجزاء في الامارات. وقد كان رأيي في مسألة الاجزاء في الحكم الظاهري: فصّلت بين حالتين: تارة تكون الامارة اعتبارها من الشارع فنقول بالاجزاء، لان الشارع في الخبر الواحد قال بالاخذ بخبر الثقة، فإذا صادف ان المخبر اخطأ فالمسؤولية على عاتق الشارع لانه هو طلب مني اعتبار خبر الواحد، وبذلك فلا قضاء عليّ. وتارة انا اعتبرت الكاشف مثلا القطع فان حجيته ذاتية، فإذا قلت لك تصدّق على مسكين وقلت لك خذ بخبر الثقة، واخبرني الثقة انه فلان مسكين، وبان لاحقا ان الذي تصدقت عليه ليس مسكينا، فهل يجزي التصدق؟ ومثال آخر: في الكفارات، التكفير على عشرة مساكين واخبرني الثقة ان هؤلاء مساكين، ثم تبين عدم ذلك، هل تجزي الكفارة او لا تجزي؟ إذن قلنا ان هناك حالتان: الأولى اذا كان اعتبار الامارة من الشارع فذهبنا إلى الاجزاء، لان الشارع طلب بالاخذ بخبر الثقة، فلا بد من الأجزاء وإلا كان الشارع ظالما.الحالة الثانية: انه انا الذي قطع بان هؤلاء فقراء ولا دخل للشارع، ثم تبيّن خطأ ذلك القطع، فلا إجزاء، واحتاج للإعادة لانني انا المسؤول، ووجوب الإعادة ليس ظلما من المولى.