الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

45/11/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/البراءة/

 

     تكملة بيان الاستدلال بأية الإيتاء، "الا ما اتاها".

     الإشكالات على الاستدلال، وردّ الإشكالات.

     الإنصاف عدم دلالة الآية على اصل البراءة الشرعية، بناء على حكم العقل بوجوب الاحتياط، فان هذا الحكم مما آتاه الله للمكلّف، فيجب ان يحتاط بموجب الآية.

     الاستدلال بالآية الكريمة: ﴿لا يكلف الله نفسا إلا وسعها﴾.

     الاستدلال بآية: ﴿قل لا اجد فيما اوحي إلى محرما...﴾ وتقريب الاستدلال.

 

نكمل الكلام في البراءة الشرعية، وقلنا أنها جعل شرعي وليس مجرّد أن تكون على لسان الشارع، أي ليس مجرد ورودها في النصوص، ونحن نعلم أن الجعل الشرعي غالبا ما يكون من النصوص ولكن يمكن ان يكتشف بالعقل بالملازمة كما في وجوب مقدمة الواجب والملازمات العقليّة لو تمّت.

وذكرنا الكلام الوارد في الآية التي استدل بها على البراءة: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا﴾ [1] وقلنا ان هناك أبحاثا فيها، فهل " ما اتاها" كما تشمل المال والنفقات والافعال تشمل التكاليف أيضا؟ فلذلك ذهبوا إلى ان المراد هو الجامع بين كل ما "اتاها" والتطبيق يكون كل بحسبه. وذكرنا أن البعض ارجع الاستدلال إلى المقولات وقال ان المال مقولة الملك والقوة العقلية والنفسية مقولة الاختصاص والفعل مقولة الفعل، والمقولات العشر لا جامع بينها.

ومثال على التطبيق: لو قلت: "كلٌ يرث أباه"، معنى الإرث واحد حتى لو كانوا عشرة اشخاص، هذا ابوه يملك مالا، فزيد ورث النقد، وآخر ورث الغنم، وآخر ورث الأرض، هل يعني ذلك أننا استعملنا لفظ الإرث في أكثر من معنى؟ بل المعنى عام وهو المعنى الجامع وليس هو من باب استعمال للفظ في أكثر من معنى. أي اشتراك معنوي كلي جامع بين كل هذه الأشياء.

إلى هنا نكون قد وجهنا ان الآية تدل على أصل البراءة الشرعية، ولكن الانصاف عدم دلالة الآية على أصل البراءة لأمرين:

الأول: لا مانع من أن يقال أن الله تعالى آتى المكلف عقلا يحكم بالاحتياط عند احتمال التكليف، فتكون الآية.

- بناء على مسلك حق الطاعة ، ووجوب دفع الضرر المحتمل دليلا على أصل الاحتياط. وقلنا ان وجوب الاحتياط العقلي له مسلكان: ووجوب دفع الضرر المحتمل، يقابله قبح العقاب بلا بيان الذي هو اصل البراءة، ومسلك آخر مسلك حق الطاعة. وهو غير تام عندنا بالنسبة الله تعالى.

 

إذن لا تدل الآية على أصل البراءة الشرعية.

الثاني: لا يبعد انصراف هذا التعبير "إلا ما آتاها" إلى الأمور المادية من مال وقوة، دون التكاليف الشرعية وان في ادعاء الانصراف نظر.

ومن الآيات التي ذكرت دليلا على أصل البراءة: ﴿لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [2] والكلام فيها نفس الكلام في الآية السابقة، وان اختلف مفهوم الوسع مع مفهوم المأتي.

ومن الآيات التي استدل بها على أصل البراءة: قوله تعالى: ﴿قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [3]

وتقريب الاستدلال بالآية الكريمة: كما في مضمون كلام المحقق العراقي (ره) في "نهاية الأفكار" إن الله تعالى لقّن نبيه (ص) كيفية المحاجّة مع اليهود فيما يرونه محرّما بأن يتمسك بعدم الوجدان، وهذا ظاهر في أن عدم الوجدان كاف في التأمين".

فالاستدلال بمعنى أنه مجرد أن لا تجد دليلا على التحريم صار حلالا، فعدم الوجدان وان كان لا يدل على عدم الوجود، لكنه يشمل عدم الوجود والشك في الوجود. فالذي أمّن النبي (ص) أي جعله في أمان هو عدم وجود الدليل على التحريم وهذا كاف في البراءة الشرعية.

وقد يناقش هذا الاستدلال بالآية المباركة بأمور:

منها: أن لفظها وموردها هو في خصوص المطعم "المأكل والمشرب"، فلا تشمل ما نحن فيه من البراءة وجواز الارتكاب في غير الواصل، فهذه لا تشمل التكاليف.

وفيه: أنهم ذكروا أن الله عز وجل يعلّم رسوله الكريم (ص) كيفيّة المحاجة الشاملة لكل ما لم يوح بحرمته، فجاز ارتكابه.

حتى لو لم الآية واردة في المطاعم، فان الاستدلال بالآية هو بلازم مفهومها الشامل لما نحن فيه وهو الشك في التكليف ليس بمنطوقها. وهذا هو أصل البراءة.

ومنها: أن موضوع الآية المباركة عدم وجدان النبي (ص) لشيء خاص محرما في جميع ما أوحي إليه حرمته، وعدم الوجدان لا يدّل على عدم الوجود.

وفيه: أن أصل البراءة وظيفة عملية وليس كاشفا عن الواقع، والآية تدلّ على نفي الحرمة الظاهرية، أي هو حكم ظاهري، وهذا يكفي في اثبات أصل البراءة.

ومن الآيات التي استدل بها على أصل البراءة، قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [4] ، وتقريب الاستدلال بها كما عن "دروس الأصول" للسيد الشهيد الصدر (ره)، و "نهاية الأفكار" للمحقق العراقي (ره): أن المراد بالإضلال فيها أحد أمرين:

إما تسجيلهم ضالين ومنحرفين، فأحيانا التعبير يكون لا بلحاظ الواقع، بل بلحاظ الظاهر او بلحاظات أخرى كلحاظ الأخر كما في الآية الكريمة التي تتحدث عن النبي موسى (ع): ﴿وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ﴾ [5] فالنبي (ع) لم يذنب معهم واقعا، فالذنب كان بلحاظ اعتبارهم.

وإما نوع من العقاب كالخذلان والطرد من رحمته.

وعلى أية حال فقد انيط الإضلال ببيان ما يتقون لهم، وحيث أضيف البيان لهم فهو ظاهر في وصوله إليهم، فمع عدم وصول البيان لا عقاب ولا ضلال، وهو معنى البراءة.

 


[1] سورة الطلاق، آية 7.
[2] سورة البقرة، آية 233.
[3] سورة الانعام، آية 145.
[4] سورة التوبة، آية 115.
[5] سورة الشعراء، آية 14.