45/10/30
الموضوع: الأصول العملية.
• هل الخلاف بين الأصوليين والاخباريين كبروي أم صغروي؟
• بيان كلام السيد الخوئي (ره) من ان الكبرى مسلّمة عند الجميع وهي اصالة البراءة العقلية.
• تعليقنا على كلام السيد الخوئي (ره) وهو ان الكبرى غير مسلّمة، والشواهد على ذلك، ومنها نظرية حق الطاعة.
• التفريق بين البراءة العقلية والبراءة الشرعية.
قبل البدء بأصل البراءة، وبعد الانتهاء من الكواشف نعود لكلام السيد الخوئي (ره) والتعليق عليه.
ذكر السيد (ره) بان أصل البراءة بما هو أمر مسلّم عند الجميع سواء الأصوليين والاخباريين، لان المسألة وجدانية: "قبح العقاب بلا بيان"، الأمر الغير واصل يعاقبني عليه وانا لا اعلمه، هو وجدانا من أوضح مصاديق الظلم.
نعود لكلام السيد (ره) قال ان الكبرى مسلّمة "قبح العقاب بلا بيان" أو "ان كل ما لم يصل يقبح العقاب عليه" لكن الخلاف والكلام في الصغرى وهي: هل وصل البيان أو لا؟ أو "هل هذا الحكم وصلني أو لا فإذا شككت لم يصلني".
ولذا حاول اصحابنا الاخباريون إلى اثبات وصول البيان بطريقين:
أحدهما: العلم الإجمالي بصدور أخبار كثيرة من جملة ما وصلنا، نعلم ان هذه الأخبار التي وصلت بعضها قطعا صادر، فتحقق العلم الإجمالي، والعلم الإجمالي ينجّز إذن يجب ان نحتاط ونعمل بالجميع أي بكل اطراف العلم الاجمالي، فصار الاحتمال منجزا بسبب العلم الإجمالي.
ثانيا: الأخبار الكثيرة الدالة على التوقف عند الشبهة. والشبهة تشمل المقرونة بالعلم الإجمالي وغيرها.
نعود لمضمون كلام السيد الخوئي (ره): يقول: "وعليه، فالمناسب البحث عن هذين الوجهين، أي عن الصغرى، أما الكلام عن الكبرى وهي أصل البراءة عند الشك في التكليف وقبح العقاب بلا بيان فلا ملزم لبحثه لأنه وجداني مسلّم عند الجميع".
تعليقنا على كلام السيد الخوئي (ره): لا نسلّم ان الكبرى مسلّمة عند الجميع.
هناك من يقول بأصالة الاحتياط عقلا. ومنهم السيد الشهيد الصدر (ره) حيث قول بمنجزية الاحتمال حتى لو لم يكن مقرونا بعلم اجمالي، مسلك حق الطاعة أي الاحتياط وليس البراءة، وكأنه يقول بالاحتياط العقلي، بل انه يصرح فيها، لولا الدليل من النصوص على البراءة الشرعية كان يقول انه يجب التحفظ والاحتياط. سنبيّن مسلك حق الطاعة في بحث البراءة مفصلا.
ثم ان القدماء اختلفوا في مسألة: هل الأصل التوقف أو الاباحة. وذهب الشيخ الطوسي (ره) على ما في بالي في العدّة إلى أصالة التوقف. وإن فسّر ذلك بأن الأصل التوقف قبل صدور الشرع أو التوقف قبل الفحص، والاباحة بعد الفحص. لذلك قالوا انه قبل الفحص يجب ان نتوقف لعدم وصول الحكم ولا اعلم به.
ثم حتى وجدانا انه لو احتملت أن الطعام الفلاني يمكن ان يؤذيك أو ان يكون هناك احتمال بان يكون مسموما، الا تجد أن العقل يحكم بلزوم الاجتناب من باب وجوب دفع الضرر المحتمل.
لذلك، أعتقد أن الخلاف كبروي كما هو صغروي، وكما ان "قبح العقاب بلا بيان" يحكم به العقل العملي أيضا دفع الضرر المحتمل يحكم به العقل، دفع الضرر المحتمل أيضا واجب عقلا، فالكبرى غير مسلّمة.
وبحث الأدلة الشرعية والعقلية على البراءة ليس من باب الفضول والفائدة العلمية كما ذكر السيد الخوئي (ره)، وليس تبعا لشيخنا الأنصاري (ره)، وليس البحث لمجرّد الفوائد الهامشية وتعرضا لفقه الحديث، بل البحث في تأسيس المسألة هل الأصل اطاعة المولى ولو في المحتمل أو الأصل البراءة؟ وهل تطبيق حق الطاعة على مسألتنا ثابت او لا؟
إذن، المسألة أيضا كبرويّة وليست فقط صغروية، يجب ان نبحث في الكبرى ثم نبحث في الصغرى.
وقد ذكرنا سابقا في مقام الجواب على نظرية حق الطاعة أو منجزيّة الاحتمال للسيد الشهيد الصدر (ره) الفرق بين المولى العادي والشارع المقدّس جل جلاله. ففي حق المولى العادي لا يبعد ما ذكره السيد الشهيد (ره)، فإن منجزية الاحتمال وان لم تكن ظلما، إلا أنها خلاف الرحمة، ومن هنا كانت لا تنطبق على الله عز وجل وهو ارحم الراحمين، الرحمن الرحيم.
إلى هنا انتهينا من خواتيم الكواشف، وقلنا ان علم الأصول هو بحث عن كواشف فان لم نجد نبحث عن وظائف، ونبدأ بالأصول العمليّة التي هي عند الشك وعند الحيرة وعند عدم الدليل، أي اخذ الشك في موضوع الأصل العملي، يقف المكلّف حائرا فتسائلا ماذا يفعل؟ فنعيّن له الوظيفة وسميناها الأصل العملي أو الوظيفة العمليّة وهما كناية عن أمر واحد.
الأصول العمليّة المعروفة التي هي أربعة: البراءة وهي عند الشك في التكليف، والاحتياط عند الشك في الامتثال، والتخيير عند دوران الامر بين الوجوب والحرمة من دون ان اخرج عنهما، والاستصحاب مع وجود حالة سابقة.
أصل البراءة:
أما أصل البراءة فموضوعه الشك في التكليف، لعدم وجود الكواشف.
الفرق بين البراءة العقلية والبراءة الشرعية:
درج عند الأصوليين اصطلاحان: البراءة العقلية والبراءة الشرعية.
انما ذكرت هذا التفريق لانهم أحيانا يعبرون ان البراءة الشرعية هي التي وردت على لسان الشارع، نجيب ان هذا التعبير غير دقيق، لذلك نذكر تعريفا للبراءة العقلية وآخر للبراءة الشرعية، ثم نبحث في البراءتين والادلّة والفروع.
البراءة العقليّة: هي ما يحكم به العقل العملي أي يدرك العقل ما يجب ان يعمل كالعدل حسن والظلم قبيح، وهو "قبح العقاب بلا بيان"، مقابل العقل النظري وهو ما يدركه العقل النظري وهو ما ينبغي ان يعلم كالواحد نصف الاثنين والنقيضان لا يجتمعان. فعند الشك في التكليف لا يكون بيان الحكم الشرعي واصلا، ومع عدم وصوله يكون العقاب على مخالفته ظلما، وهذا واضح بالوجدان.
وهذا الادراك العقلي قد يأتي على لسان الشارع، كالعدل حسن الذي يدركه العقل فيكون لسان الشارع إرشاديا إلى حكم العقل، تماما كما في قوله تعالى في العدل: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [1] فإن ورود الأمر بالعدل على لسان الشارع إرشادي إلى حكم العقل العملي به، وهذا لا يعني أنه جعل شرعي.
فوجود نفس الحكم على لسان الشارع قد يكون ارشاديا واحيانا يكون جعليا، البراءة الشرعية هي المجعولة شرعا، اما البراءة العقليّة هي المدركة عقلا سواء قام عليها لسان شرعي أم لا.
فما عبر عنه بعض الأصوليين بان البراءة الشرعية ما ورد على لسان الشارع، تعبيره غير دقيق.
البراءة الشرعية: وهي ما حكم به الشارع، أي ما جعله الشارع، من قبيل اصل الحليّة كـ " كل شيء لك حلال" حكم، الشارع مع الشك يجعل لك الحليّة - وقد ذكرنا سابقا الفرق بين اصل الحليّة واصل البراءة -. ومثال اخر: "الطواف صلاة" الطواف غير الصلاة وكلاهما عبادة، الشارع جعل الطواف كالصلاة تأسيسا وجعلا. وهذا ما يعلم غالبا من لسان الشارع، كقوله (ص): "رفع عن أمتي ما لا يعلمون"، وانما قيدنا بقولنا غالبا لأنه قد يأتي من سيرة عقلائية ان الشارع امضى العمل بها الذي هو جعل أيضا، كالعمل بخبر الواحد والعمل بالشهرة، والعمل بالظن، والعمل بالقياس، هذه سيرة عقلائية وليست حكما عقلائيا.
ومن هنا فليست البراءة الشرعيّة ما كانت على لسان الشارع، فان ما ورد عن لسان الشارع قسمان:
قسم جعلي وهو البراءة الشرعية.
وقسم ارشادي وهو البراءة العقليّة.