الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

39/06/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: اجتماع الامر والنهي.

-الفرق بين التعارض والتزاحم.

-تزاحم الملاكات وتزاحم المناطات.

-جريان التزاحم في الملاكات على قول العدلية.

-في تعارض الاطلاقين يقدم الاظهر، فان تساقطا يجري الاصل اللفظي، وإلا فالاصل العملي.

-التمثيل بطير واحد اجتمع فيه اطلاقان: حرمة ما صف، وجواز ما له حوصلة. والاصل اللفظي الحلية لقوله تعالى:" قل لا اجد في ما اوحي إلي على طاعم يطعمه ....".

الفرق بين التعارض والتزاحم: أن التعارض تكاذب الدليلين مما يؤدي إلى اننا نعلم بوجود حكم واحد في مقام الجعل، بينما في التزاحم كلا الحكمين موجود في مقام الجعل لكن في مقام الامتثال لا يمكن امتثالهما.

في التعارض نريد ان نبحث عن الحكم المجعول ما هو؟ اما في التزاحم نريد ان نبحث عن اي الحكمين مطلوب تنفيذه باعتبار انني لا استطيع تنفيذ الاثنين معا، أي ابحث عن الفعلية.

تزاحم الملاكات وتزاحم المناطات: مع العلم ان التزاحم في الملاكات موجود في الاثنين، أي ما قبل الجعل هناك عالم الاقتضاء عالم الملاكات وبالكسر والانكسار ينتج الحكم. لان مراحل الحكم تبدأ بعالم الملاك والاقتضاء، ثم عالم الانشاء، ثم يدفع اليه في عالم الفعلية، والتنجيز. في التعارض قبل الجعل هناك عالم مصالح والكسر والانكسار والاقوى يكون الجعل على اساسه مثلا: ) يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ( [1]

" قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس " قبل الجعل، " واثمهما اكبر من نفعهما " اصبح الجعل على اساسه، اي قبل الجعل هناك مصالح ومفاسد وفي مرحلة الكسر والانكسار ينتج حكم، فتزاحم الملاكات في التعارض موجود بمعنى انه قبل الجعل لكن لا نعرفه ولا نعرف ايهما اقوى. فتزاحم الملاكات موجود قبل الجعل، وهوليس من شأن المكلف في شيء هذا اولا، وثانيا هذا مبني على مسألة تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، أي مبني على قول الامامية والعدلية والمعتزلة على ان الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها او في نفس الحكم، هذا مبني على احدى نظريتين في العالم الاسلامي، نظرية الاشاعرة من الاحكام ليست تابعة للمصالح والمفاسد ، بل الحسن ما حسنه الله وما امر به الشرع لا شيء بالاساس اسمه مصلحة ومفسدة، اما المعتزلة العدلية قالوا ان هناك مصلحة واقعيّة وعلى اساسها يأمر الشارع.

قلنا ان التزاحم في الملاكات يكون قبل الجعل في عالم الجعل وهذا ليس من شأن المكلّف، وهذا ما ورد في الحديث: " ان دين الله لا يصاب بالعقول " أي ان مصلحة ان اصلي ركعتي في الصبح وفي المغرب ثلاثة ركعات غير معلومة. وهذا هو تفسير " ان دين الله لا يصاب بالعقول " وهذا لا يعني ان العقل ليس له أي شأنية في معرفة الملاكات والاحكام الشرعية.

أما التزاحم بعد الجعل، فهو في مقام الفعلية، لعدم إمكان امتثالهما معا، ففي هذا التزاحم يقدم الاقوى مناطا، والمناط يمكن إدراكه، لانه ما يدور الحكم وجودا وعدمت مداره في مقام الاثبات، وهذا من شأن المكلف إدراكه والعمل به.

نعود إلى مسألتنا وهي اجتماع عنوانين على معنون واحد، وقلنا ان الامتناع معناه انه هناك جعل واحد، وهذا مبني على اولا: إما ان نقول بسراية الحكم من الطبيعة إلى الفرد، او بسراية الحكم من الملازم إلى الملازم. وقلنا ان الكلام صغروي وليس كبرويا، بعبارة اخرى: ليست المسألة انه هل يجتمع الامر والنهي في واحد؟ لانه محال، وليس هناك عاقل يقول باجتماع الامر والنهي يجتمعان في واحد، لكن كلامنا هل مسألتنا من اجتماع الامر والنهي في واحد او لا ؟ أي ينطبق عليه الكبر او لا؟

فالامتناع له مستندان احدهما: إما سراية الحكم من الطبيعة إلى الفرد، أو ان يكون الفرد نوع من التلازم بين حصتين والحكم يسري من الحصة إلى الحصة الاخرى. وإذا قلنا بالامتناع يعني عندي جعل واحد وحكم واحد، وهذا يعني ان هناك حكم واحد اريد ان ابحث عنه، وكيف ابحث عنه؟ في احكام التعارض، لان التعارض هو تكاذب بين الدليلين في مقام الجعل وليس في مقام الفعلية. إذن مسألتنا ينطبق عليها تمما انها من باب التعارض. هذا على القول بالامتناع.

انطباق هذا التصوير على التعارض:

ذكروا في التعارض أنه تناف في مقام الجعل والانشاء، هذا في عالم الثبوت. أما في عالم الاثبات فهو تكاذب الدليلين بحيث أن كل واحد من الدليلين يدل على نفي مدلول الدليل الآخر بالمطابقة او الالتزام.

وهذه الضابطة لباب التعارض تنطبق على ما ذكرناه في مسألتنا على القول بالامتناع. وحينئذ نحكم باب التعارض فنقول باختصار:

إن كانا الدليلان لفظيين، فان كان ما يدل على تقديم أحدهما على الآخر أخذنا به، كما لو كان بينهما تقييد أو تخصيص ، أو حكومة أو ورود أو جمع عرفي، فيقدّم الاظهر، ومع عدمه يتساقط الاطلاقان.

ولو تساقط الاطلاقان، ثم إذا وجدنا أصلا لفظيا جاريا في المسألة أخذنا به، وإلا ذهبنا إلى الاصل العملي.

مثال على ذلك اجتماع عنوان الحرمة والحلية في طير واحد: مثلا في صحيحة زرارة انه سأل ابا جعفر (ع) عما يؤكل من الطير فقال: كل ما دفّ ولا تأكل ما صفّ. [2] وايضا ورد في موثق سماعة عن ابي عبد الله (ع) في حديث قال: كل من طير البر ما كانت له حوصلة ومن طير الماء ما كانت له قانصة كقانصة الحمام لا معدة كمعدة الانسان إلى ان قال: والقانصة والحوصلة يمتحن بهما من الطير ما لا يعرف طير انه وكل طير مجهول. [3]

من الناحية الفقهية واضح ان استراط الحوصلة في طيور البر من باب العلامة على كيفية الطير، فتكون مقدما عليها، ولذا لو علمت بكثرة صفيفه فهذا يكفي في التحريم، لان الحوصلة علامة، ومن شأن العلامة ان تكون عند مجهولية كيفية طيران الطير.

ومع ذلك لو قلنا بالاشتراط، وتعارض العنوانان عندما اجتمعا في طير واحد، أي في معنون واحد: " لا تأكل ما صفّ " و " كل ما فيه حوصلة " فان الاطلاقين يتعارضان، ومعه نرجع إلى الاصل اللفظي في المسألة وهو المستنتج من قوله تعالى: ) قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ( [4] . أي كل شيء يؤكل فهو حلال إلا ما ذكر فلو لم يقم دليل على التحريم أخذنا بهذا العموم.

ومع عدمه نصل إلى الاصل العملي وهو الحلية ايضا من باب كل شيء لك حلال، أو أصل البراءة، نعم قد يتوهم اثبات موضوع التحريم بأصالة عدم التذكية، لكنه توهم فاسد، لان اصالة عدم التذكية تثبت عنوان " الميتة " باللازم العقلي فتكون اصلا مثبتا. وذلك لان المحرّم هو عنوان الميتة لا عنوان غير المذكى.

هذا ما كان بالنسبة للامتناع وبقي مستند الجواز، ثم سنلخص بنقاط سريعة لكل ما ذكرناه، ثم نأتي بكلام الشيخ النائيني الذي هو محور الكلام في هذه الايام وهو الفرق بين الحيثية التعليلية والحيثية التقييدية، ثم نأتي إلى المختار.


[1] البقرة/السورة2، الآية219.
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج16، باب19، انه يحرم ما يصف منه غالبا ويحل ما يدف غالبا، ح1ص346، (الاسلامية).
[3] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج16، باب18، تحريم الطير الذي ليس له قانصة ولا حوصلة ولا صيصية ما لم ينص على إباحته وعدم تحريم أكل ماله أحدها ما لم ينص على تحريمه، ح3ص345، (الاسلامية).
[4] الأنعام/السورة6، الآية145.