الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

39/04/28

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الامر بالامر بالشيء امر به؟

     المختار: عبادات الصبي الممّيز صحيحة، ولذا يرتب آثار الصحيح عليها.

القول بان الامر لا مدخلية له في عبادية الشيء:

بعد ان بنينا على اساس مهم وهو ان مفهوم الأمر، أو داعي، أو قصد الامر، بل وجود الامر لا دخالة له اصلا في مفهوم العبادة، يمكن تصور ان تكون العبادة من دون اوامر، بل هذا متحقق واعطينا مثالا على ذلك من يعبد الوثن، ليس هناك امر من الوثن ومع ذلك يعبده ويقال انها عبادة، بالنتيجة هناك علاقة خاصّة بين المخلوق وخالقه، هذه لا تحتاج إلى اوامر، ونقول ان الانسان بحاجة لهذه العبادة، ونقربها بتقريب بسيط علاقة الطفل بأمه وابيه، علاقة الانسان بالله عز وجل علاقة فطرية طبيعية. ولكن ما معنى العبادة؟ قد لا استطيع تعريفها فهي ليست بمعنى الطاعة ولا التبعيّة، ولا كان الاجير عبدا.

ثمرة هذا القول: هذا المبنى ان الامر لا مدخلية له في العبادة لا مفهوما ولا مصداقا له ثمرات كبيرة، ومن اهم ثمراته انه نتخلص من اشكال الشيخ الانصاري (ره) وهو انه كيف يمكن اخذ داعي الامر في متعلق العبادة وهذا يؤدي إلى الدور وإلى الخلف. ورددنا هذا الاشكال من اساسه وقلنا ان الامر لا دخالة له في العبادة اصلا، نعم الامر يكشف عن عباديته كما يكشف عن الملاكات مثلا عندما اقول: " صلاة الصبح ركعتان " هذا يكشف عن ان هناك مصلحة في كون صلاة الصبح ركعتين، قد لا ادركها ولكني اعلم بذلك اجمالا.

ونحن بنينا على اساس مهم وهو ان الاحكام تابعة لمصالح ومفاسد، فالعبادات تصححها الملاكات وليست الاوامر.

وبالنسبة إلى التزاحم قالوا عندما يتزاحم امران المهم والاهم ويكون المهم عباديا كإنقاذ الغريق والصلاة في نفس الوقت، الواجب هو الاهم، وقد بيّنا سابقا ملاكات الاهميّة، الاهم هو انقاذ الغريق. لكن لو فرضنا ان الانسان لم ينقذ الغريق وصلى، فقد وقع الكلام في صحة صرته، هل صلاته صحيحة او لا؟ الاشكال يقع بناء على كون الامر له مدخلية في متعلّق العبادة يعني: ان الصلاة غير مأمور بها لوجود الامر بالاهم، فإذا كانت غير مامور بها قالوا انها تقع فاسدة. اما المحقق الكركي فقد خرج بمسألة الترتب لتصحيح الامر بالصلاة عند العصيان واكثر المتأخرين على تصحيح الترتب. لكن صاحب الكفاية رفض الترتب ونحن ايدناه وقلنا ان الترتب محال، وكيف يجتمع امران فعليان في آن واحد؟!. فإذا كان الترتب باطلاانتفى الامر بالعبادة فلا تصح الصلاة ولذا ذهب صاحب الكفاية (ره) إلى تصحيح الصلاة عن طريق الملاكات، فان انتفاء الامر وسقوطه بسبب التزاحم لا يعني سقوط الملاك، بل يبقى الملاك. مثلا: إذا قلت لك " اكرم العلماء " وهناك مصلحة في اكرام العالم، فإذا اكرمت كل العلماء تتم المصلحة لكن بعض العلماء إذا اكرمتهم قد يؤدي إلى مفسدة إذا كانوا فسقة، العالم الفاسق إذا اكرمته يكون هناك ملاكان: اكرام العالم الذي يؤدي إلى تشجيع الناس على العلم، واكرام الفاسق تؤدي إلى تشجيع الناس على الفسق، إذن هناك ملاكان فيقدم الاهم، وتقديم الاهم ليس معناه ازالة الملاك الاول، فإذا اكرمت العالم الفاسق فإن مصلحة اكرام العالم والتشجيع على العلم تبقى موجودة، لكن هذا الفرد اجتمع فيه ملاك آخر وهذا هو التخصيص، والتخصيص هو خروج بعض افراد العام عن حكم الموضوع لوجود ملاك آخر مزاحم، وهذه المسألة سترد عند بحث الفرق بين الوصف والتخصيص، بين كلمة " إلا " وبين الوصف، كأكرم العلماء العدول، وأكرم العلماء إلا الفساق.

ولذلك صاحب الكفاية (ره) صحح العبادة من خلال الملاكات، نلاحظ ان الاصوليين رغم انهم قلوا ان داعي الامر مأخوذ في الامر لكن في اعماقهم يعودون إلى ما ذهبنا اليه من ان العبادة لا دخالة للأمر فيها اصلا.

ولنكمل الكلام في المختار في المسألة ان السيد الخوئي (ره) عندما قال ان هناك دليلان على صحة عبادة الصبي المميّز، الدليل الاول: " مروهم بالصلاة منذ سبع " وهو ايّد ذلك، ونحن ايدناه.

صحة الاستدلال بالعمومات على تصحيح عبادات الصبي المميز:

الدليل الثاني: هذا الاستدلال رفضه السيد الخوئي (ره) وهو الاستفادة من العمومات " يا ايها الناس " " يا ايها الذين امنوا "، وعموم " الناس " " الذين آمنوا " يشمل الصبي المميز، فيدل على صحة العبادة. اما روايات " رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم " فقد اسقطت الوجوب أي الإلزام لكن يبقى الملاك والاستحباب والطلب، صححوا العبادة من خلال هذه العمومات.

سبب رفض السيد الخوئي للعمومات: والسيد الخوئي لم يقبل بالعمومات لان " رفع القلم " لان القلم بمعنى الاعتبار، والاعتبار يبدأ من حين البلوغ أي الاحتلام، فكيف يكون الامر قبل الاحتلام. لذلك يقول ان نفس هذه الرواية تدل على عدم وجود الصلاة قبل البلوغ، أي ان الصبي المميز لا تصح صلاته. وهو يقول: كيف يكون ما يدل على الاعتبار يثبت الاعتبار؟!.

ملخص الجواب: قد سبق منا وقلنا ان الامر لا علاقة له بالعبادة نعم يتحكم الشارع بكيفية العبادة، فقال مثلا: " صلوا كما رأيتموني أصلي ".

دفع وهم: مفهوم العبادة مفهوم واحد، كما يعبد الانسان الله يعبد عابد الوثن وثنه، كمفهوم النكاح تدخل الشارع في كيفياته وشروطه، ثم قد يتم النقل في الصلاة أو غيرها على قول. نعم نهى عن بعض العبادات وتدخل في بعضها مثل الصلاة في الحمام مكروهة او الصلاة على قارعة الطريق، والصلاة المستحبة في المسجد، تدخل في المكان والكيفية والهوية، وكل متعلقات العبادة يمكن التدخل فيه، لكنها لا تزال بنفس المفهوم.

النتيجة: ان الامر إما ان يأتي من حكيم او من غير حكيم، فإذا كان من غير حكيم لا يحتاج إلى ملاك كحكم قراقوش، وإذا كان من حكيم فهو يحتاج إلى ملاك ومصلحة وهذا الملاك هو المصحح للعبادة كما قال صاحب الكفاية (ره).

ولما كانت العمومات " يا ايها الذين آمنوا " تشمل الكبير والصغير والبالغ وغيره دلَّت حينئذ على وجود مصلحة ما وإن لم ندركها بعينها لكننا ندركها في الجملة، وإدراكنا لها في الجملة كافٍ لتصحيح العبادات، وهذا هو الفرق بين صدور الإعتبار من الحكيم وصدوره عن غيره. وبهذا البيان يظهر أن صدور الإعتبار من الحكيم يدل في عالم الإثبات بما ظاهره وجود الملاك، ووجود الملاك كافٍ في تصحيح العبادات.

ألا ترى أن صاحب الكفاية (ره) عندما رفض الترتب صحح العبادات عند مزاحمتها بما هو أهم منها ببقاء ملاكها؟! وأستغرب كيف غفل هؤلاء الأساطين عن ذلك.

تلخيص البحث وما مر في نقاط:

النقطة الأولى: إن الأمر بالأمر بالشيء له في مقام الثبوت ثلاثة إحتمالات. الغرض يكون في المامور به، او الامر به، او في الاثنين معا.

النقطة الثانية: إن هذه الاوامر ظاهرة عرفاً في كون الغرض منها هو في نفس المأمور به.

النقطة الثالثة: إن النتيجة هي أن الأمر بالأمر بالشيء أمر به وذلك على خلاف صاحب الكفاية.

النقطة الرابعة: إن صحة العبادات تكون بثبوت الملاكات لها، واما النصوص فهي كاشفة عن هذه الملاكات، وإن لم نعلمها بعينها.

النقطة الخامسة: إن الإستدلال على شرعية عبادات الصبي المميز بدليلين كلاهما تام.

     روايات: " مروهم بالصلاة منذ سبع سنين ".

     عمومات: " يا أيها الناس " ، " أقيموا الصلاة ".

نصل إلى نتيجة وهي أن عبادات الصبي المميز صحيحة وليست تمرينية بناء على الدليلين معا، اولا: الامر بالامر بالشيء امر به، وهذا سلمنا به مع السيد الخوئي وغيره، الثاني: العمومات تشمل الصبي المميز وعبادته صحيحة، فيجوز استئجاره للعبادات وغيرها ويجوز تبرعه في العبادات حتى ولو لم يبلغ، كل ما كان من شان الكبير من آثار يكون له ايضا سوي الإلزام الذي يبدأ حين البلوغ، هذا ما نبني عليه ووصلنا اليه.