الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

39/04/27

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: الامر بالامر بالشيء أمر به؟

     عبادة الصبي صحيحة أو تمرينية؟

     رفض السيد الخوئي للاستدلال على صحة عبادة الصبي بالعمومات.

     الجواب على السيد الخوئي بمقدمتين،

     المقدمة الاولى: مناط صحة العبادة هو الملاك لا الأوامر.

     المقدمة الثانية: كشف الاوامر عن وجود ملاك واقعي إجمالا.

ملخص ما مضى: الكلام في ان عبادات الصبي صحيحة أم تمرينية احد فروع مسألة الامر بالامر بالشيء، قلنا ان السيد الخوئي (ره) عندما تعرص للاستدلال على صحّة عبادات الصبي، قال ان هناك دليلين: الاول: الامر بالامر بالشيء امر به، وطبقه على روايات " مروهم بالصلاة منذ سبع " مما يدل على صحة صلاتهم. الثاني: العمومات مثل: " يا أيها الذين آمنوا " .

الدليل الاول سلّم به قال: الامر بالامر بالشيء امر به على خلاف صاحب الكفاية (ره). اما الدليل الثاني فغير تام عنده وهو ان عمومات ) وأذن في الناس في الحج يأتوك رجالا ... ( [1] ) يا ايها الذين امنوا ( [2] ، بالنتيجة الصبي مميز مكلف لانه من الناس حيث قلنا في مقام التوضيح ان هناك ثلاثة اعمار: الطفل غير المدرك والصبي المميز والبالغ، اما الطفل غير المدرك فغير مشمول بالخطابات، الصبي المميز يمكن ان يشمل لانه مدرك، البلوغ هو سن الالزام. ورفض السيد الخوئي الدليل الثاني وهو عمومات: ) يا ايها الناس ( تدل على الشمول للتكليف، ثم روايات: " رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم " اسقطت الالزام لانها من باب المنّة، فيكون الصبي بالبلوغ مكلفا ولكنه غير ملزم مما يدل على صحة عبادته. ونحن لم نقبل هذا الكلام.

قبل بيان المختار لا باس بمقدمتين:

 

ارتباط العبادات بالمصالح:

الاولى: إن صحة العبادات مرتبطة بالملاكات لا بالأوامر [3] ، وهكذا بقية الامور من عقود او إيقاعات أو أفعال أخرى شرعية لها احكامها كالذباحة، وذكرنا ذلك عندما بحثنا مسألة أخذ داعي الامر في متعلق الامر، وتعرضنا لاشكال الشيخ الانصاري (ره). ونحن قلنا ان هناك مرحلة واحدة وهي الانشاء اما الملاك فهو مقدمة لا بد منها، وهذا الانشاء لا يكون عن فراغ فلا بد من مصلحة وملاكات ينتج عنها الانشاء الذي ينتج عنه الدفع للتنفيذ. فإذا ثبت الملاك ثبتت الصحة، وقد بينا ذلك سابقا وإن الاحكام تابعة لمصالح ومفاسد في متعلقاتها.

واما قوله تعالى: ) وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون ( [4] فليس معناه لأتامر عليكم فتعبدوني، بل إن العبادة معنى خاص يعرفه في اعماقه كل مخلوق. العبادة ليست متعلقة بالاوامر، العبادات على قسمين: قسم منها عبادات ذاتية كالسجود تعظيما فلا يحتاج إلى بيان، وهناك عبادات مطلوبة تحتاج إلى بيان. العبادة بذاتها هي علاقة خاصة بين المخلوق وخالقه وليست مجرّد اطاعة، وإلا فالاجير يطيع فلا يصبح عبدا، وكذلك الخادم يطيع فلا يصبح عبدا، العبادة شيء آخر غير الخدمة والاطاعة، العبادة معنى خاص قد لا استطيع انا ان اعبر عنه بالتعبيرات المتعارفة، ومجرد عدم القدرة على التعبير ليس معناه انه غير موجود، من قبيل تعريف الوجود التي كانت تعريفاته غير تامة بل هي مجرد تقريب للذهن.

وأذكر ان أحدهم سألني: لماذا خلق الله الناس؟ فأجبته بعفوية: أن لا أساس لهذا السؤال، فان الله لو لم يخلق الكون لم يكن خالقا ولا إلها، فان الخلق فيض منه يفيض عنه، وللتقريب: ألا ترى ان الكرم يفيض من حاتم طيء فيضا، فان حاتم لا يستطيع إلا أن يكون كريما. وبهذه الرؤية نفسر الحديث القدسي الوارد: " كنت كنزا مخفيا فاحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي اعرف ". ولذلك قلنا سابقا ان لا اساس لإشكال الشيخ الانصاري الاعظم (ره) في مسألة أخذ داعي الامر في متعلّقه، وإلا لزم الدور أو الخلف منه برأيه. ونحن قلنا انه لا اساس لهذا الاشكال من اصله، العبادة لا تحتاج إلى اوامر هي بذاتها عبادة، نعم قد استكشف كيفية العبادة من الاوامر.

 

تصحيح العبادة عند الآخوند بالملاكات:

هذا الاشكال الذي أخذ من الاصوليين الكثير في مقام الجواب عليه. الا ترى ان الاصوليين - كصاحب الكفاية -الذين رفضوا الترتب عند تزاحم الامرين: الاهم والمهم صححوا العبادات " المهم " بثبوت الملاكات. الشيخ الكركي صحح العبادة بالترتب. وصاحب الكفاية رفض الترتب، فاصبح المهم بلا أمر لمكان التزاحم، فصحح عبادية المهم بالملاك.

النقطة الثانية: وهي قدمة ترتبط بمراحل الحكم، وهي كما قالوا: الاقتضاء والانشاء والفعلية والتنجيز. ونحن ذكرنا أن الحكم له مرحلة واحدة وهي الانشاء. أما الاقتضاء فهي المصلحة التي ينشأ عنها الحكم، والفعلية والتنجيز هي حالات وظروف ليس أكثر، ولكل حالة أثرها وأحكامها.

علاقة الاعتبار بالملاكات: الاعتبار خفيف المؤونة فهو مجرد جعل لا يحتاج إلى عناء، وهذا الاعتبار والانشاء إذا جاء من غير الحكيم فلا داعي لان يكون منشأه اقتضاء المصالح له، بل يكفي أن يخطر ببال المعتبر فيعتبره، وقد يكون كحكم قراقوش مجرد اعتبار شيء في ذمّة المأمور من دون التفات لمصلحة او مفسدة، أي بدون ملاك سوى ما يخطر ببال الحاكم والمعتبر والمنشيء، وأما إذا كان من الحكيم فلا بد أن يكون ناشئا من ملاك ومصلحة، وقد اشتهر بين أهل الاصول بل وأهل علم الكلام، بل وأهل الفكر ان الله عز وجل سيد الحكماء ولا يحكم ولا يصدر أمرا ولا ينشأ إلا عن مصلحة، ولا ينهى إلا عن مفسدة، كل ما في الأمر أننا لا ندرك هذه المصلحة والمفسدة إلا بما حكم العقل العملي بها، وأما ما لا يدركه فلا يمكن إثباته بالعقل، وبهذا فسرنا قوله عليه السلام: "إن دين الله لا يصاب بالعقول".

 


[1] سورة الحج، آية 27.
[2] سورة الحج، آية 77.
[3] ورد ذلك في اشكال الشيخ الانصاري (ره) وهو اخذ داعي الامر في متعلّقه؟ والذي يؤدي بحسب الاشكال إلى الدور أو أخذ المتأخر في المقدّم، وذلك أن العبادات برأيه وكذلك المعروف بين الفقهاء والمتداول هو الفعل المقيّد بقصد الامر، ومع هذا التعريف للعبادة يتم الاشكال عند الشيخ الانصاري، وقد تصدى الاصوليون لحل ّ الاشكال، أما نحن فنقول أن لا اساس لهذا الاشكال من رأس.
[4] سورة الذاريات، آية 56.