الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

39/03/01

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : هل الاحكام تتعلق بالطبائع أو بالأفراد؟

     المقدمة الاولى: الامور على اربعة، اثنان متأصلان واثنين غير متأصلين.

     المقدمة الثانية: ان الشيء ما لم يتشخص لم يوجد.

     المقدمة الثالثة: هل الكلي الطبيعي الموجودة في الخارج هل هي موجودة في الخارج حقيقة.

     المقدمة الرابعة: هذه المسألة نظرية فلسفية.

نعود لمطلب تعلق الاحكام او الاوامر بالطبائع أو بالأفراد، قلنا ان هناك توجهين: أحدهما تعلّقه بالطبائع والثاني بالأفراد، والذي يقول انها بالطبائع لا يقول بها بما هي في الذهن أي ليست بما هي صورة ذهنية بل بما هي موجودة في الخارج لان الغاية من الاحكام هو الاثر الخارجي. والذي يقول بالفرد لا يقول بالفرد المتشخص خارجا فانه موجود، ولذا قيل بانه لا معنى لهذه المسألة؟

ذكرنا بعض المقدمات من جملتها اولا: ان الامور على اربعة، اثنان متأصلان وهما الجوهر والعرض، واثنين غير متأصلين وهما الانتزاعي والاعتباري.

المقدمة الثانية: ان الشيء ما لم يتشخص لم يوجد لان التشخصات لا بد منها في الوجود، أي لا يمكن لمفهوم وعنوان وماهية رجل ان توجد من دون حيّز وكيف وكم وغيرها من العوارض التسعة التي جمعها بعضهم في بيتين من الشعر:

زيد الطويل الازرق ابن مالك      في داره ذا اليوم كان متكي

بيده غصن لواه فالتوى      فهذه عشر مقولات سوى

الجوهر زيد والباقي تسعة اعراض من الكم إلى الكيف إلى الوضع إلى الفعل والانفعال والزمان والمكان والاضافة والاختصاص.

فلا بد من العوارض حتى يتشخص الشيء وإلا لا يمكن ان يوجد ولذلك قالوا في قاعدة شهيرة " ان الشيء ما لم يتشخص لم يوجد "، فان المشخصات الخارجية من اللون والطول والحيّز والوضع والمكان والزمان وغير ذلك من العوارض التسعة لا بد منها للوجود، ولذا قالوا: " ان التشخص نفس الوجود " فلنبق على ذُكْرٍ من هذه العبارة. وهي مسألة عقلية محضة تستطيعون ان تفكروا وحدكم وتأخذوا قرارا بها [1] . وسنرى ان السيد الخوئي(ره) بنى كل رأيه على هذه العبارة " التشخص نفس الوجود "، التشخص من حيث العنوان وجوده شخصه، الوجود الخارجي هو الشخص [2] ، فالانسان إذن وجود ضمن حيّز ولون، وضمن الاعراض الاخرى، لكن الكلام الذي سيأتي والسؤال هو التالي: هل هذه المشخصات جزء من الفرد، أو أنها من لوازم الفرد ووجودها في قبال وجوده، كل ما في الامر انهما متلازمان بحيث لا يوجد الفرد من دون المشخصات.

المقدمة الثالثة: هل الكلي الطبيعي – أي الطبيعة – الموجودة في الخارج هل هي موجودة في الخارج حقيقة بمعنى أن لها في كل فرد حصّة حقيقية تختلف عن الحصة الاخرى ذاتا ومشخصات؟ أو أن الطبيعة والماهية هي أمر انتزاعي منتزع من وجود افراد في الخارج يختلف كل فرد منها عن الاخر كليا، وما فيها من الماهية ليس حصصا من الماهية.

بعبارة اخرى: هذه الحصة الخارجية للفرد التي هي مختلفة ومتميزة عن الحصة الاخرى في الفرد الآخر، إذا اضفناها للفرد تكون وجودا للفرد، وإذا أضفناها للكلي الطبيعي فهل هي وجود حقيقي له أيضا وحصة منه.

أو انه مجرد منشأ انتزاع للكلي الطبيعي وليس للطبيعي أي وجود في الخارج إلا مجازا بلحاظ أن ما في الخارج منشأ لانتزاعه؟ وتكون هي العلاقة المصححة للمجاز.

وببيان أوضح: في الخارج يوجد أفراد هم زيد وبكر وعمرو وخالد و و و فهل في كل منهم يوجد حقيقة وواقعا حصة من الانسان؟ أو أن الانسان ليس سوى مفهوم منتزع من هذه الافراد، لا وجود له في الخارج، وعندما يقال: الانسان موجود في الخارج فهو بمعنى وجود منشأ انتزاعه لا هو نفسه.

المقدمة الرابعة: هذه المسألة نظرية فلسفية، وقد ذهب بعضهم إلى عدم وجود ثمرة لها من الناحية الاصولية أو الفقهية، وهذا ما نؤيده فانه بالنسبة لتعلق الطلب وهو ما يهمنا فلا فرق، فانه على القول بالوجود الحقيقي للطبيعي يكون المطلوب هو تحقيق حصة ما على نحو التخييز في الخارج، وعلى عدم كونه موجودا حقيقة فالمطلوب هو إيجاد منشأ انتزاعه، أي فرد خارجي على نحو التخييز أيضا لان الامر بالشيء أمر بمنشأ انتزاعه.

ولذا فلا ثمرة بالنسبة إلينا كأصوليين لان المطلوب حينئذ واحد على القولين وسياتي بيان ذلك قريبا جدا.

لكن الشيخ النائيني (ره) بنى رأيه في مسألة اجتماع الامر والنهي، على هذه المسألة، حيث قال بان من ذهب إلى تعلق الاحكام بالعنوان فقد ذهب إلى الجواز ومن ذهب إلى تعلق الامر بالفرد فقد ذهب إلى الامتناع. [3]

وقد استدل على كونها أمرا حقيقيا صحة النسبة للفرد فتقول: " زيد إنسان " من دون أي تكلف تطبق الكلي على فرده. وهذا دليل غير كاف وان جعله السيد الخوئي وغيره امرا وجدانيا ولا داعي للبحث فيه لاحتمال اشتباه العرف فيه وسبب الاشتباه شدة العلاقة بين المنتزع ومنشأ انتزاعه.

بعبارة اخرى: هذه الحصة الخارجية للفرد التي هي مختلفة ومتميزة عن الحصة الاخرى في الفرد الآخر إذا اضفناها للفرد تكون وجودا للفرد "زيد"، وإذا اضفناها للكلي الطبيعي تكون منه.

ومن باب إعادة البيان: سؤال: هل للكلي الحقيقي له وجود خارجي حقيقي او لا؟ أو انه مجرد منشأ انتزاع للكلي الطبيعي وليس للطبيعي أي وجود في الخارج إلا مجازا بلحاظ أن ما في الخارج منشأ لانتزاعه؟ وتكون هي العلاقة المصححة للمجاز.

وهذا بحث نظري فلسفي دقيق. ولكن بالنسبة لتعلق الطلب وهو ما يهمنا في الاصول من قبيل: عندما اقول ائتني بماء فالمطلوب هل هو طبيعة الماء الموجودة في الخارج؟ او فرد الماء الذي انتزع منه الكلي؟ الامر بأي شيء متعلق بالطبيعة او بالفرد، هذا ما يهمني كأصولي، فانه على القول بالوجود الحقيقي للطبيعي يكون المطلوب هو تحقيق حصة ما على نحو التخيير في الخارج، وعلى عدم كونه موجودا حقيقة فالمطلوب هو إيجاد منشأ اتنزاعه، أي فرد خارجي انتزعت منه الكلي بعد ازالة كل المشخصات، مثلا المطلوب مني اكرم العالم، كلمة اكرم العالم مطلوبة مني، هذا الاكرام للعالم ازيل المشخصات والاعراض يبقى الاساس وهو هذا العنوان وهذا المفهوم يكون هو المطلوب أي اوجد لي منشأ الانتزاع.

بالنتيجة: هل الحصة موجودة واقعا فيتعلق الامر بها، او لا ان الحصة غير موجودة اصلا فيتعلق الامر بمنشأ انتزاعها،

ولذا يسأل: هل توجد ثمرة؟ قد يقال لا ثمرة بالنسبة إلينا كأصوليين لان المطلوب حينئذ واحد على القولين. فإذا امرت بإيجاد كلي إكرام العالم، فعلى القول بان الحقيقة موجودة في الخارج فالمطلوب هو ايجاد الفرد، وعلى القول بان الحقيقة غير موجودة في الخارج تكون النتيجة ان المطلوب هو الفرد أيضا لان الامر بالشيء امر بمنشأ انتزاعه، فلا يكون هناك فرق يبنهما، إذن لا ثمرة لنا كاصوليين.

هل هذا الكلام تام او لا؟ ان شاء الله غدا نكمل الكلام.


[1] وهذا هو الفرق بين الدراسة الاكادمية والدراسة الحوزوية الاصيلة، الفكر الحوزوي الاصيل الذي انتج مثل الفارابي وابن سينا والعلامة الحلي والشيخ الطوسي والشيخ مرتضى الانصاري، وصاحب الكفاية وغيرهم، الفكر الحوزوي يجعلك تبدأ من الاول من الفكرة من جذورها، اما الفكر الاكاديمي فهو يركز على الحفظ وتقصيّ الآراء، إلا في المراحل الاخيرة من الدراسة كالدكتوراه، ولكن المشكلة ان ذهنية الطالب قد بنيت بحيث يصعب على الطالب الخروج منها. ونحن للأسف كحوزويين تأثرنا بهذا الجو والنمط، ولذلك اعتقد ان العلوم في العالم تراجعت، وانا اقول للاخوة الاكادمين ان ادرسوا الرياضيات والفيزياء والكيمياء والطب والهندسة على المنهج والنمط الحوزوي الاصيل الذي يتنج العلماء.
[2] ولعل نفس الفكرة اخذها " جون بول سارتر " الوجودي الفكر بعد حوالي ألف سنة، الشيء بوجوده لا بشيء آخر وطور الفكرة.
[3] في الشمسية ذكر: إن الوجود عارض الماهية تصورا واتحدا هوية. استطراد: ان المسلمين او ان الحضارة العربية التي كتبت باللغة العربية امتازت عن حضارات الدنيا بشيء وهو انها صاغت العلوم بطريقة شعرية لما يعلم الناس ان للشعر قيمة. هناك اراجيز علمية تأثر بالنفس، الشعر مضمون فيه ايقاع، بينما النثر مضمون دون ايقاع. وهذا له الاثر الكبير في النفس والحفظ والتفاعل معه، لذلك هناك اراجيز كثيرة في النحو وفي الفقه وفي الصرف وفي الفلك وفي العلوم الاخرى ايضا إلى آخره. وهذا مما امتازت به الحضارة العربية الاسلامية عن بقية الحضارات في صياغة العلوم.