الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

38/06/30

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : مسألة النهي عن الضد.

     المرجح الثاني: تقديم المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية.

     وجه التقديم هو الورود.

     بيان الورود.

المرجح الثاني: ما إذا كان أحد الحكمين مشروطا بالقدرة العقلية، والآخر مشروطا بالقدرة الشرعية، فإن المشروط بالقدرة العقلية مقدّم على المشروط بالقدرة الشرعية. والمقصود من القدرة الشرعية ما ورد عند الشارع كدليل الاضطرار والحرج والعسر والضرر والمشقة، ومنها القدرة العرفية، فان القدرة عند العرف تختلف عن القدرة عند العقل، لان الشيء المضطر إليه لا يعتبر عند العرف قادرا.

ذكرنا امس ما معنى هذه المصطلحات، ونكرر ثلاثة امور وهي: ان القدرة العقلية هي نفس القدرة التكوينية، والقدرة العرفية ما يعتبر عند الناس قادرا فالمضطر مثلا غير قادر عندهم، والقدرة الشرعية ما كان مأخوذا عند الشارع شرطا سواء كان الدليل على الشرط دليلا لفظيا او لبيا.

فإن المشروط بالقدرة العقلية مقدّم على المشروط بالقدرة الشرعية، لكن الكلام في وجهه، ما هو ملاك هذا التقديم؟

يمكن تصور ذلك وجدانا، فالمشروط بالقدرة العقلية بصبح فعليا بمجرد تحقق موضوعه من قبيل: حفظ النفس واجب، بمجرد وجود النفس صار حفظها واجب. فالمشروط بالقدرة العقلية عبر بعض الاصوليين عنه بان مطلق، مجرد وجود الموضوع يتحقق الحكم.

بينما المشروط بالقدرة الشرعية يجب ان تتم فيه الشروط الشرعية مثلا: " اكل الميتة حرام " المقيّد بعنوان ثانوي وهو الاضطرار الرافع للحكم في قوله (ع): " رفع عن أمتي ما لا يعلمون و .... وما اضطروا إليه "، هنا قيّدت الحكم بعدم الاضطرار.

نلاحظ في المقيّد بالقدرة العقلية تحققه مباشرة بتحقق موضوعه، وفي القدرة الشرعية مقيّد لم يتمّ إلا بتحقق الشرط الشرعي. وقلنا أن معنى القدرة الشرعية ما يشمل القدرة العرفية أي عدم الاضطرار وعدم العسر والحرج وعدم استلزام معصية. ولذا فالمقيّد بالقدرة العقلية يرفع موضوع القدرة الشرعية. بمجرد ان حفظ النفس واجب ترتفع حرمة أكل لحم الميتة، والسبب في ذلك أن أكل لحم الميتة مشروط بالقدرة الشرعية وهي عدم الاضطرار، والامتثال يقتضي عدم الاكل وهو يؤدي إلى معصية وهي عدم حفظ النفس. إذن صار عدم اكل الميتة يستلزم معصية فترتفع الحرمة.

ملخص الكلام ان المشروط بالقدرة العقلية يرفع موضوعا المشروط بالقدرة الشرعية، وإذا ارتفع موضوعا قدم المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية، وصار مقدما من باب الورود وليس مرجحا وخرج عن التزاحم.

 

وبتوضيح آخر: لو تزاحم حكمان وجوب حفظ النفس، وحرمة أكل الميتة. وهذا أمر قد يحدث بل قد حدث وكان محل ابتلاء فأيهما المقدّم؟ وههنا مرجحان: الاول: أن حفظ النفس أهم ملاكا ومصلحة، والثاني: كون حفظ النفس مشروط بالقدرة العقلية ككل الواجبات وليس مشروطا بأي شرط آخر، بل تشمل حالات الاضطرار والعسر والحرج والمشقة، وكل العناوين الثانية التي لها دخالة في مفهوم القدرة عرفا، بينما نجد أكل لحم الميتة مقيدا في لسان الدليل بالقدرة الشرعية، ﴿ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ [1] " رفع عن أمتي ما اضطروا إليه " فيقدّم وجوب حفظ النفس على حرمة أكل الميتة.

وجه التقديم:

قلنا إن أصل التقديم لا خلاف فيه، نعم وقع الكلام في وجه التقديم، ولعلّ جميع الوجوه ترجع إلى كون فعلية المشروط بالقدرة العقلية يرفع موضوع المشروط بالقدرة الشرعية فيكون من باب الورود، ويصبح من قبيل تقديم الخاص على العام، وتقديم المقيّد على المطلق، إذ التنافي تعارض بدوي ينحل إلى تقديم الخاص على العام او المقيد على المطلق، ويخرج بذلك عن التزاحم، لأن التزاحم هو انه كلا الامرين ينشأن وفي حال الامتثال يصطدمان فترتفع فعلية احدهما، لذلك صاحب الكفاية (ره) قال لا بد من وجود الملاكين. بينما في المطلق والمقيّد يوجد التنافي لكن يقدم المقيّد على المطلق وينتهي التنافي. هناك تعاض بدوي يرتفع سواء في تقديم المطلق على المقيد أو الخاص على العام، أو الحكومة الحاكم على المحكوم، او الوارد على المورود عليه، أو الجمع العرفي، او الاظهر على الظاهر، او النص على الظاهر. مع هذه التقديمات ينتهي التنافي.

بيان الورود: موضوع المشروط بالقدرة العقلية هو نفس تحقق القدرة التكوينية، فيشمل كل الحالات من الاضطرار وغيره فإن الأمر المضطر عليه مقدور عليه عقلا وتكوينا وإن لم يكن كذلك عرفا وشرعا لأن الاضطرار يرفع الحكم، أي غير مقدور عليه شرعا، وإن كان تكوينا مقدورا عليه.

ونذكر بأن موضوع المشروط بالقدرة الشرعية هو ما يشمل غير المقدور بالقدرة العرفية كالمشروط بعدم الاضطرار وغيره، ويشمل أيضا ما لا يستلزم معصية.

وعليه: فان موضوع المشروط بالقدرة العقلية تام بمجرد وجود فرده، فيتحقق فعلية الحكم فهو مطلق، فبمجرد وجود النفس وجب حفظها، فيكون وجوب الحفظ فعليا ومع وجوب امتثاله يمتنع امتثال حرمته أكل لحم الميتة لان المنهي عنه شرعا كالممتنع عقلا، فتسقط فعلية الحكم بحرمة أكل لحم الميتة. وهذا بخلاف العكس فان ثبوت المشروط بالقدرة الشرعية لا يرفع موضوع القدرة العقلية، لان القدرة العقلية – أي التكوينية – ثابتة على كل حال، أي سواء ورد أمر بامتثال غيره أم لم يرد. ولذلك ذهب بعض الاصوليين إلى خروج المسألة عن باب التزاحم لتدخل في باب الورود.

نعم بعض التوجيهات مبنائية، وللتذكير السيد الخوئي (ره) اعتبر ملاك التزاحم عدم القدرة على الامتثال من دون اشتراط وجود الملاكين، اما صاحب الكفاية (ره) جوهر التزاحم عنده هو وجود الملاكين الذي ينشأ عنهما عدم القدرة على الامتثال. ونحن ايدنا صاحب الكفاية.

فقد ذكر المحقق النائيني (ره) في وجه التقديم أن ملاك المشروط بالقدرة العقلية تام، وأما ملاك المشروط بالقدرة الشرعية فغير تام فلا يمكن ايجابه فعلا.

نقول: لا يمكن ايجابه فعلا لانه لا بد من وجود الملاك فيه، وهذا بناءً على كلام صاحب الكفاية.

واجاب السيد الخوئي (ره) على الشيخ النائيني (ره) في هذه المسألة.

غدا ان شاء الله نكمل.

 


[1] سورة البقرة، أية 173.