الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

38/06/29

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : مسألة النهي عن الضد.

     المرجح الثاني.

     تقديم المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرطية.

     معنى الاصطلاحات الاربعة: القدرة العقلية، القدرة التكوينية، القدرة العرفية، القدرة الشرعية.

انهينا الكلام في الامثلة التي مثل بها الشيخ النائيني (ره) على المرجح الاول وهو تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل، ووصلنا إلى ما ذكره السيد الخوئي (ره) من الامثلة الثلاثة ليست من باب التزاحم أصلا، مع التسليم بالكبرى وهي أن ما ليس له بدل مقدم على ما له بدل. وكان الكلام في المثال الثالث، وان السيد الخوئي (ره) قال: لو دار الامر بين التيمم والصلاة الكاملة او الوضوء وصلاة ناقصة يتيمم ويصلي اربع ركعات في الوقت، أي نفس النتيجة وهي تقديم الوقت على الطهارة ولكن بطريق آخر.

يقول السيد (ره) باستنباط فقهي وملخصا: ان الله عز وجل في كتابه الكريم وفي الروايات وفي النصوص جعل للمشروط – الصلاة – مبدأ ومنتهى وجعل له شرطا وهو الطهارة، وهذا الشرط هو استعمال الماء – الوضوء – لكن استعمال الماء يجب ان يكون قادرا عليه عقلا وشرعا، إذا لم يكن قادرا لا عقلا ولا شرعا يكون له بدل. ومع القدرة عقلا وشرعا يتوضأ وبدونها يتيمم.

ومعنى القدرة هو القدرة الشرعية والعقلية، يعنى عقلا يكون عنده ماء، وشرعا هو ان لا يؤذيه استعمال الماء وغير ذلك من مبررات التيمم بأدلة وقرائن من روايات ومن الآية القرآنية نفسها: ( وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) [1] فإذا لم يكن قادرا يتيمم، ولذلك يكون البدل الطولي في الشرط لا في المشروط. اولا نرتب الصلاة – المشروط – في وقتها، وهذه البدلية هي في الشرط أما البدلية في المشروط فهي عند تعذر الوقت، لا عند تعذر الطهارة. فان الوارد في الروايات: " من ادرك ركعة من العصر فقد ادرك العصر كلّه " او " من ادرك ركعة من الوقت فقد ادرك الوقت كلّه ".ومعنى الادراك الوصول إليه مع السعي إليه.

بتعبير آخر: السيد الخوئي (ره) يقول: انه عندما جعلت الصلاة في الوقت جعل لها شروط فالبدائل اصبحت في الشروط، أي ان الاساس هو الوقت ومع عدم القدرة بدل الوضوء يتيمم. استعمال الماء مشرط بقدرة عقلية وشرعية. العقلية اولا وهو ان يكون الماء موجودا، والشرعية ان لا يقتضي الوضوء أي استعمال الماء بعض المعاصي كخروج بعض الصلاة عن الوقت، فتكون معصية. أي صار غير قادر على استخدام الماء عقلا وشرعا. فبمجرد خروج بعض الركعات عن الوقت اصبح عاجزا شرعا عن استعمال الماء. وبعبارة اخرى: ثم إن القدرة عقلا هي بمعنى وجود الماء، والقدرة شرعا فهي بمعنى عدم استلزام المعاصي.

بهذا التوجيه السيد الخوئي يصل إلى نفس النتيجة التي وصل لها الشيخ النائيني، وهي تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل لكن بطريق فقهي، ويرى ان هذا المثال ليس مثالا للتزاحم، بل حتى ليس من باب التعارض المستحكم، بل هو من باب التعارض الذي ينحل بتقديم بعضه على الآخر، من قبيل العام والخاص عندما يتنافى دليلان يكون هناك تنافي بدوي وعندما نحمل العام على الخاص يرتفع التعارض.

إلى هنا ينتهي المرجح الاول وذكرنا الامثلة ونقشناها لما فيها من فوائد.

ثم إن علاج التزاحم يختلف عن علاج التعارض المستحكم، في مرجحات باب التعارض نلاحظ الدليلين الأفقه والأورع إلى آخره وستأتينا، اما مرجحات باب التزاحم منها مرجحات ذكرنا الاول وهو: تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل.

المرجح الثاني: تقديم المقيّد بالقدرة العقلية على المقيّد بالقدرة الشرعية. بتعبير آخر: ما إذا كان احد الحكمين مشروطا بالقدرة العقلية والآخر مشروطا بالقدرة الشرعية، فان المشروط بالقدرة العقلية مقدم على المشروط بالقدرة الشرعية. هذا هو العنوان العام وسنبيّن ان التقديم من باب الورود. أي ان القدرة العقلية ترفع عنوان القدرة الشرعية.

قبل الخوض في المرجح الثاني نبحث ما هو المقصود من معنى القدرة العقلية ومعنى القدرة الشرعية.

القدرة العقلية هي القدرة التكوينية من قبيل: صلِّ يعني قادر على الصلاة تكوينا وغير ذلك من الامثلة.

القدرة الشرعية هي المأخوذة عند الشارع ولو بالتقرير، مثلا: أكل الميتة محرم، هذا حكم مشروط بعدم الاضطرار ويرتفع الحكم. من قبيل حرمة اكل الميتة، كقدرة تكوينية انا قادر ان لا اكل الميتة لكن في حال الحرج والضرر يرتفع الحكم مع العلم انني قادر على الامتناع.

في عرف الناس القدرة العرفية تشمل القدرة التكوينية وغيرها، عرف الناس يرى ان المضطر ليس قادرا بينما تكوينا المضطر قادر، مثلا: حرمة اكل الميته، هذا حكم. تكوينا انا قادر ان لا اكل الميته، اما إذا كنت مضطرا فان الناس يعتبرونني غير قادر على الامتثال.

فرق بين عرف الناس- القدرة العرفية – والقدرة التكوينية. في القدرة التكوينية انه لا يستطيع تكوينا، اما في العرفية إذا كنت مضطرا او في عسر او الحرج او الضرر يعتبر غير قادر عند الناس وان كان تكوينا قادرا، وإذا لزم منه معصية أكون غير قادر شرعا وإن كنت تكوينا قادرا مثلا إذا صليت لزمه موت الغريق، الصلاة يلزمها لازم شرعي وهو النهي والمعصية، فأصبحت غير قادر شرعا.

فالقدرة الشرعية تشمل القدرة التكوينية والعرفية والعادية وما كان بلسان الشارع من معصية وغيرها.

لذلك فلنقل ان ما نتصوره ان هناك اربعة اصطلاحات في القدرة، قدرة تكوينية، وقدرة عقلية، وقدرة عرفية، وقدرة شرعية: اولا: القدرة التكوينية وهي مرتبطة بالوجود والتكوين المحض.

ثانيا: القدرة العقلية هنا هي نفس القدرة التكوينية وهو الامكان التكويني [2] .

ثالثا: القدرة العرفية هي ما كان عند العرف غير قادر، فيشمل المضطر والمعسور والمحرج وان كان قادرا تكوينا، فالعرف ينظر للقدرة بنظرة تختلف عن العقل والتكوين.

رابعا: القدرة الشرعية ما كانت مأخوذة عند الشارع، وبعضهم يقول ما كانت مأخوذة في لسان الشارع، ويتبادر منها الالفاظ ليخرج بعض الاشياء. لذلك فالتعبير الاوضح القدرة الشرعية هي ما كانت مأخوذة لدى الشارع كشرط سواء كانت بلسانه من قبيل: " ان استطعت فافعل كذا "، وسواء كانت قدرة عرفية لانه عند العرف المضطر غير قادر، أو شرعية كانت تلازم معصية من قبيل: " الامر بالشيء يقتضي النهي عن ضده " [3] .

إذا بيّنا معنى ذلك نقول: يقدّم المقيّد بالقدرة العقلية على المقيّد بالقدرة الشرعية. وكمثال: إذا دار الامر بين حفظ النفس واكل الميتة [4] ، أو حفظ النفس واخذ دواء فيه كحول، يحرم شربه. في هذا المثال هل يجوز شرعا الاكل او الشرب لأجل حفظ النفس. وقع التعارض بين وجوب حفظ النفس وبين اكل الميتة. وجوب حفظ النفس غير مقيّد بشيء فطالما انت قادر يجب أن تحفظ نفسك، القدرة العقلية مأخوذة في حفظ النفس. بينما اكل الميتة لغير المضطر: ( فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) [5] مشروط بقدرة شرعية.

ثبت عندي حكمان متعارضان وجوب حفظ النفس وحرمة اكل الميتة، احدهما مقيّد بقدرة عقلية وهو حفظ النفس مطلقا، والثاني مقيد بقدرة شرعية وهو حرمة أكل الميتة، ماذا نقدّم؟ نقدم المقيد بالقدرة العقلية، وهذا اجماعا، لكن وقع الكلام في سبب التقديم.

غدا ان شاء الله نرى السبب.

 


[1] سورة النساء، آية 43.
[2] في الاصطلاح القدرة التكوينية والقدرة العقلية متساويان مصداقا مختلفان مفهوما.
[3] لو قلنا بالاقتضاء.
[4] هذا المثال حصلا فعلا، في جبال الاند في امريكا الاتينية وقعت طائرة في الجليد على ارتفاع سبعة الاف متر وبقي الركاب حولي شهرين فاضطروا إلى اكل لحم بعضهم. وقى الله الطيبين من ذلك.
[5] سورة البقرة، أية 173.