الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

37/07/03

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: النفسي والغيري:

بعد التذكير بما مرّ في عبادية الطهارات الثلاثة وما بها من اشكال، وذكرنا ان المتداول بين الاصوليين ان العبادية هي ما لا يصح إلا بقصد أمره تعالى أو بقصد التقرب اليه أو طمعا في الجنّة أو خوفا من النار بمعنى العلاقة بالله تعالى والقدر المتيقن هو خصوص ما كان عن أمره تعالى، أما الامر فهو كاشف عن عباديتها وليس كل أمر عبادة كبر الوالدين الذي هو واجب توصلي، وقصد الامر هو العبادية، نعم استكشاف العبادية كيف يتم سنتعرض له ان شاء الله، وسنصل إلى ان الامر كاشف عن التعبد وليس هو نفس العبد، وفي التعبدي والتوصلي تطرقنا لهذا الامر.

وتخلص صاحب الكفاية من الاشكال: بان المقدمة عبادة وعبّر لذلك: " فإن الامر بالمقدمة لا يدعو إلا لما هو المقدمة " أي تعلق الامر المقدمي الذي هو الوضوء بما هو عبادة. وهذا التعبير جعله جوابا على عدّة اشكالات.

اما الشيخ النائيني (ره) لم يرتض هذا الكلام واشكل بثلاث اشكالات، الاول اشكال نقضي وهو يعني ان لب الحل هو ان الوضوء والغسل والتيمم هي عبادات مسبقا مستحبة نفسيا ثم تعلق بها الأمر الغيري.

ونحن نعلم سلفا ان الوضوء يكون مستحبا بذاته، والوضوء على قسمين قسم مستحب بذاته فهو نور على نور كما ورد في الروايات، وقسم واجب لغاية، والغسل كذلك في الاستحباب: " وإن كنتم جنبا فاطهروا" في بعض الرايات استحبا الطهور أي ان الغسل يمكن ان يكون بدون غاية. اما في التيمم فلا يوجد هذا الاستحباب النفسي.

فلذلك هذا الجواب نقضي فإنما فلو تم هذا الجواب فإنما يتم في الغسل والوضوء ولا يتم في التيمم.

نكمل كلام السيد الخوئي (ره): وفيه: أنه يمكن استفادة استحباب التيمم من قوله (عليه السلام): " التراب أحد

الطهورين " بضميمة ما دل من الإطلاقات على استحباب الطهور في نفسه.

فالنتيجة: أن التيمم بما أنه طهور فهو مستحب بمقتضى تلك الإطلاقات.

فهذا الجواب النقضي مبني على مسألة فقهية، وهي هل التيمم مستحب في نفسه او لا؟. إذا قلنا انه مستحب بنفسه يصبح شأنه شأن الغسل والوضوء ولا يتم الاشكال.

أما إذا ناقشنا بهذه الادلّة وأن التيمم ليس مستحبا في نفسه حينئذ يتم الاشكال نقضي.

يكمل السيد (ره): الثاني: أن الطهارات الثلاث بما أنها مقدمة متصفة بالوجوب الغيري فعلا ومعه لا يمكن بقاء الأمر النفسي المتعلق بها بحاله لوجود المضادة بينهما فلابد عندئذ من الالتزام باندكاكه في ضمن الوجوب ، فإذا كيف يمكن أن يكون منشأ لعباديتها ؟ [1]

بيان هذه العبارات في اشكال الشيخ النائيني على صاحب الكفاية: صاحب الكفاية (ره) يقول ان حل الاشكال بالشكل التالي: وهو ان منشأ العبادية هو الاستحباب النفسي. اما الشيخ النائيني (ره) قال: ان الاستحباب النفسي والوجوب الغيري ضدان لا يجتمعان بحديهما ومع عدم اجتماعهما ادعى الاندكاك، أي اندك الامر النفسي مع الوجوب الغيري، ومع الاندكاك ينتفي الامر النفسي ويبقى الوجوب الغيري وحده لان الوجوب اقوى من الامر بالاستحباب، الضعيف يندك بالقوي. بعبارة اخرى: بما ان الوجوب اقوى صار هو المندك فيه، وهذا يعنى أن الاستحباب النفسي انتهى، فكيف يمكن ان يصح منشأ للعبادية؟!.

السيد الخوئي (ره) لم يرضى هذا الكلام واجاب على الشيخ النائيني (ره): بان هذا الاندكاك لا يعني سقوط الامر النفسي نهائيا، بل هناك مرحلتان: إما يصبح شأنه شأن النذر المتعلق بالمستحب، أي اصبح هناك مستحب تعلق به النذر، أي هناك وجوب غيري نذري واستحباب نفسي، وعندما يتعلق بالمستحب يسقط عدم جواز ترك المستحب ويبقى مستحبا.

يقول السيد الخوئي (ره) انه عندما يسقط الامر النفسي أو الامر الغيري ويندك احدهما بالآخر، يصبح عندي وجوب قوى وآكد ويبقى بعض آثار المستحب والواجب، أي يبقى امر وحيد

وإما أن يبقى الوجوب الغيري ولكن الاستحباب النفسي يسقط الامر به دون آثاره، أي دون مواصفات المتعلّق. فيبقى المتعلق محبوبا ويبقى عبادة وغيرها من الصفات. من قبيل: ان شعبا سيطر على شعب آخر، الشعب الآخر إنمزج بالأقوى ولكن تبقى كثير من الخصوصيات فيه لعدم ممانعة الاقوى له. وهذا الحال في كل شعوب الارض حيث تبقى الكثير من الخصوصيات.

ولا بأس بذكر كلامه (ره): وفيه: أن حال هذا المورد حال غيره من موارد الاستحباب التي عرض عليها الوجوب من ناحية نذر أو شبهه، فكما أن في تلك الموارد يندك الأمر الاستحبابي في ضمن الأمر الوجوبي فيتحصل من ذلك أمر واحد وجوبي مؤكد، ويكون ذلك الأمر الواحد أمرا عباديا، لأن كلا منهما يكتسب من الآخر صفة بعد عدم إمكان بقاء كل منهما بحده الخاص،

أي لا يمكن بقاء الاستحباب كاستحباب بحده أي طلب مع جواز الترك، والوجوب طلب مع عدم جواز الترك. فيندكان في امر واحد ويأخذ كل منهما صفة من الآخر. والامثلة كثيرة على ذلك كالعرب والفرس صاروا في مجتمع واحد في العراق اخذوا الدواوين وبعض الانظمة، والفرس اخذوا ايضا من العرب بعض الاشياء والعادات والتقاليد. يعني انهما اندكا في مجتمع واحد ويؤثر كل منهما ويعطي صفة من صفاته للآخر. من قبيل إذا تعلق النذر بأمر عبادي، فيبقى أمر النذر وجوبيا ويجب الوفاء به، والمستحب يجوز تركه، فيصبح لدينا أمر وجوبي مؤكد وصفات المستحب انه عبادي، فالصفات تبقى ويأخذ كل منهما بصفة الآخر، فيتحصل أمر بوجوب مؤكد يأخذ صفات المستحب.

 

يكمل السيد (ره): على أنه يكفي في عباديتها محبوبيتها في أنفسها وإن لم يبق أمرها الاستحبابي بإطاره الخاص.

هذا الكلام سنستفيد منه في ما ذهبنا اليه في التعبدي والتوصلي.

وتعليقنا على كلام السيد (ره) حيث قال: " وفيه ان حال هذا المورد حال غيره من موارد الاستحباب التي عرض عليها الوجوب من ناحية نذر أو شبهه "، فلنتأمل بهذه الدعوى هل هو من نفس المورد أو لا؟

قبل الجواب اريد التذكير بمسألة اجتماع عنوانين على معنون واحد كما في اجتماع الامر والنهي.

اجتماع الامر والنهي في واحد من قبيل " اكرم العلماء لا تكرم الفساق، وزيد فاسق وعالم "، اجتمعا مصداقا في زيد فهل يجب اكرامه او لا؟ عقدوا لهذه المسألة بابا عنونوه باجتماع الامر والنهي، وكان محور الكلام انهم اتفقوا على ان اجتماع الامر والنهي في واحد محال، لكن اجتماع العنوانين في مصداق واحد " كزيد " هو من باب اجتماع الامر والنهي في واحد أو لا؟ كلمة في واحد تصدق هنا أو لا؟ وهذا الكلام ايضا يشمل المتماثلين من قبيل: " يجب اكرام الادباء" و " يجب اكرام الفقهاء "، وهذا " أديب فقيه "، اجتمع وجوبان في شخص واحد. فكما ان الامر والنهي لا يجتمعان، كذلك الامران لا يجتمعان لانهما ضدان او متماثلان، لا يجتمعان في مكان واحد وزمان واحد وجهة واحدة.

فحينئذ تلك المسألة " اكرم العلماء لا تكرم الفساق " متعلق الامر يختلف عن متعلق النهي، مع اختلافهما كل ما في الامر انهما اجتمعا مصداقا. فهل اجتماعهما في المصداق يقال له اجتمع الامر والنهي في واحد او لا؟

فإذا كان اجتماع الامر والنهي في واحد فالعقل يحكم بالعدم لأنه تكليف بالمحال، أو تكليف محال. أما إذا بقي الامر في هذا العنوان والنهي في هذا العنوان فلا يكون اجتماعا في شيء واحد.

وفي مسألتنا إذا تعلق النذر بصلاة أو بوضوء أو بأمر استحبابي، أي اختلف العنوان.

والمصحح لاجتماع عنوانين بحكمين وتصادقهما على معنون ومصداق واحد، هو عدم صدق اجتماع الامر والنهي في واحد، باعتبار ان الاوامر متعلقاتها الطبيعة لا الافراد. إذن الفرد ليس مجمعا للامر والنهي.

أما إذا قلنا إن متعلق الامر أو النهي هو الأفراد، فقد اجتمع الحكمان وهو محال.

ونعود للسيد الخوئي (ره) يقول ان متعلق النذر ومتعلق الاستحباب شيء واحد كما لو نذرت ان اصلي لله تعالى صلاة الصبح، هذه الصلاة بنفسها متعلقة للنذر وبنفسها متعلقة للوجوب، أي ان هناك وجوب نذري ووجوب من الاساس بعنوان أولي. هذان الوجوبان اجتمعا في صلاة الصبح، هنا متعلق النذر والوجوب تعلقا بالصلاة، هذان الوجوبان لا يجتمعان لانهما ضدان او متماثلان فيندك احدهما في الآخر.

لكن مسألتنا هل هي كمسألة النذر أو لا؟

نقول: ان مسألتنا ليست من قبيل النذر لان متعلق الاستحباب شيء ومتعلق الوجوب الغيري شيء آخر، الامر باستحباب الوضوء متعلقه يختلف عن الوجوب الغيري. إذن هنا مسألتان: مسألة تعلق النذر بأمر واجب أو مستحب. ومسألة وجوب غيري واستحباب نفسي.

فهل هناك فرق بين الوجوب النذري والوجوب الغيري او لا؟

المتعلق في مسألتنا متعدد وليس واحد.

غدا ان شاء الله نكمل.

 


[1] محاضرات في الاصول السيد ابو القاسم الخوئي. ج2 ص398.