الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

37/06/28

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: النفسي والغيري:

النقطة الرابعة في التعليق على كلام السيد الخوئي (ره): " والمثوبة والعقوبة وإنما تكونان من تبعات القرب والبعد ". وهذا ايضا كلام صاحب الكفاية غيره.

وفيه: إن القرب والبعد شرط في الثواب والعقاب وليس علّة تامة. فالثواب يستحقه العبد على الطاعة استحقاقا من باب الجعالة أو من باب الوعد من الله عز وجل وذكرنا هذا سابقا وذكرنا ان الفرق بين الاستحقاق والتفضل، الاستحقاق يدور مدار الظلم وهنا عدم الوفاء ظلم، وهذا يكون في الجعالة والاجارة، وقلنا انه ليس هناك إجارة لعدم وجود طرفين، بل يوجد طرف واحد -ايقاع- والايقاع نوع من الجعالة اما لو كان مجرد خلف وعد فهو تفضل لان عدم الوفاء بالوعد ليس ظلما للطرف الآخر. والطاعة هي فعل المأمور به مع قصد الامتثال والخضوع والتعظيم والاجلال لله تعالى وإلا – أي لو كان الملاك في الثواب هو القرب النفسي – لوصلنا إلى تعدد الثواب كما ذهب إليه السيد الخوئي (ره).

التفسير الثاني للثواب على المقدمة هو التفضل [1] وهو ما ذهب إليه أيضا صاحب الكفاية (ره) في أحد تفسيريه. و تعليقنا: ان هذا أمر لا مانع منه، ولكن يحتاج إلى دليل بل الدليل على خلافه فان ظاهر الروايات الثواب على نفس المقدمة من باب الجعالة كما ذكرنا فهو استحقاق حينئذ، ولا نرى مانعا من ذلك عقلا لكي نأوّله بالتفضل أو بغيره.

وبهذا يندفع الاشكال المشهور في الطهارات الثلاث، بلا أي حاجة لأي تأويل، فيمكن ان يترتب على الطهارات الثلاث ثواب.

وتمتاز الطهارات الثلاث عن غيرها من المقدمات بأمرين: اولا: بالثواب عليها. ثانيا: بعباديتها.

من هنا وقع الاشكال: إذا كان الامر الغيري لا يقتضي ثوابا ولا عبادة ولا يمكن ان يكون تعبديا، ماذا نفعل بالطهارات الثلاث؟

إشكال الطهارات الثلاث: لما كانت الطهارات الثلاث شرطا ومقدمة لبعض العبادات كالصلاة والصوم والطواف ولا شك في ترتب الثواب عليها بما هي لا بما هي شروع في الأمر النفسي، بل بموافقة امرها الغيري ومع العلم أن الأمر الغيري فيه صفتان:

الاولى: عدم ترتب الثواب عليه بما هو.

الثانية: لا يكون تعبديا ، بل هو أمر توصلي.

فكيف نفسّر هاتين الصفتين في الطهارات الثلاث عند كونهما مقدمة.

فهنا مسألتان:

الاول: تفسير الثواب على الطهارات الثلاث عند امتثالها بداعي الامر الغيري.

الثانية: تفسير عباديتها عند امتثالها بداعي الأمر الغيري.

أما المسألة الاولى: فقد ظهر مما سبق وقلناه وأسسناه من كون ما ورد من الثواب هو استحقاقا على نحو الجعالة، وما لم يرد فيه يكون موردا للتفضل.

فنقول: إن المولى لما أمر بالصلاة بالأمر النفسي التفت إلى مقدماتها، ورأى بعض المقدمات لا شرطيتها ومقدميتها يعرفها العبد كالوضوء، فأمره بها وجعل له ثوابا على نفس تلك المقدمة من باب الجعالة، فيكون العبد مستحقا للثواب. فالثواب ليس ناشئا من قصد الأمر الغيري، بل جعالة المولى له.[2]

وأما المسألة الثانية: وهي عبادية الطهارات الثلاث، فكذلك، إن هذه المقدمات لا يلتفت إليها العبد ولا يعلم كونها شرطا لتحقق الأمر النفسي، فألفت الشارع النظر إلى ذلك. وأذكر بما أسسناه في مسألة التعبدي والتوصلي، من أن العبادة ليست هي التقرب، ولا امتثال الأمر، ولا الخوف من النار، ولا الطمع في الجنّة، بل هي جميعا لوازم لمفهوم العبادة بلحاظات متعددة، بل العبادة مفهوم عالمي، هي علاقة تزللية خاصة بين العبد ومعبوده يدركه كل عبد ومخلوق بالوجدان كما يعرف معنى الوجود، موجود في كل الاديان حتى الوثنية وعند عباد الاصنام، فعابد الصنم يعبد صنمه وليس من أمر من الصنم ومع ذلك فهو يعبده.

وكذلك قلنا في " الصلاة " قلنا إن معناها لغة ليس الدعاء وإن كان جزاء أساسيا فيها، بل هي علاقة خاصة بين العبد ومعبوده يعرفها كل انسان، وإن لم نستطع التعبير عنها بلفظ معين. وعدم إمكان التعبير عنها لا يعني عدم إدراكها، ألا ترى أن مفهوم الوجود أمر واضح وجداني ولا يمكن تعريفه.

هنا نذكر كلاما للسيد الخوئي (ره) لما فيه من ثمرات وفوائد: ثم إنه قد يشكل في الطهارات الثلاث من وجهين:

الأول: أنه لا شبهة في استحقاق الآتي بها الثواب، مع أن الأمر المتعلق بها غيري ولا يترتب على امتثاله ثواب، كما أنه لا عقاب على تركه. والجواب عنه قد ظهر مما تقدم.

الثاني: أنه لا ريب في عبادية الطهارات الثلاث ولزوم الإتيان بها بقصد التقرب [3] ، وإلا لم تقع صحيحة.

ومن هنا لا يكون حالها حال بقية المقدمات في كون مطلق وجودها في الخارج مقدمة، وإنما الإشكال والكلام في منشأ عباديتها، ولا يمكن أن يكون منشؤها الأوامر الغيرية المتعلقة بها، ضرورة أن تلك الأوامر أوامر توصلية لا تقتضي عبادية متعلقاتها.

أضف إلى ذلك: أن الأمر الغيري إنما يتعلق بما يتوقف عليه الواجب، والمفروض أن الطهارات الثلاث بعنوان كونها عبادة كذلك، وعليه فالأمر الغيري المتعلق بها بطبيعة الحال يتعلق بعنوان أنها عبادة، ومعه كيف يعقل أن يكون منشأ

لعباديتها؟ [4]

وأجاب عن هذا الوجه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): بأن منشأ عباديتها إنما هو الأمر النفسي الاستحبابي المتعلق بذواتها، فإذا لا إشكال من هذه الناحية.

ولكن أورد عليه شيخنا الأستاذ (النائيني) (قدس سره) بوجوه:

الأول: أن ما أفاده صاحب الكفاية (قدس سره) لو تم فإنما يتم في خصوص الوضوء والغسل حيث ثبت استحبابهما شرعا، وأما التيمم فلا دليل على استحبابه في نفسه، فإذا يبقى الإشكال [5] بالإضافة إليه بحاله.

وفيه: أنه يمكن استفادة استحباب التيمم من قوله (عليه السلام): " التراب أحد الطهورين " بضميمة ما دل من الإطلاقات على استحباب الطهور في نفسه.

فالنتيجة: أن التيمم بما أنه طهور فهو مستحب بمقتضى تلك الإطلاقات. [6] فيكون شأنه شأن الغسل والوضوء.

غدا ان شاء الله نكمل الاشكال الثاني.

 


[1] والتفسير الاول هو زيادة الثواب على نفس العمل على ذي المقدمة.
[2] المولى لما امر بالصلاة بالأمر النفسي يعلم بكل المقدمات من المشي إلى المسجد وغيره من المقدمات لأنه مولى حكيم، ورأى ان بعض المقدمات لا يعرفها العبد كالمشي إلى المسجد وهذه مسألة عقلية اما مسألة الوضوء للصلاة فلا يعرفها، الصلاة في عرف البشرية لا تحتاج إلى وضوء وغسل وتيمم، اتباع بقية الاديان يصلون بدون وضوء، فالوضوء مسألة لا يلتفت اليها العقل لأنه ليس شرطا عقليا تدخل المولى وامره بها وجعل له ثوابا عليها كمقدمة من باب الجعالة استحقاقا. المولى حين خلق العبد اعطاه الحرية بالوجدان، في العمل له الثواب، وفي العصيان له العقاب. قد يقال: الانسان عبد لله لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فلا يكون موردا للجعالة؟ فانه يقال: عندي بديهتان: الاولى أن الانسان موجود قطعا. والثانية الانسان حرّ في افعاله قطعا وهذا أمر وجداني، إذ لولاه لما كان له حق القصاص من الجاني لو فرض ان الجاني مجبر. وهذا الاختيار والحرية مسألة وجدانية وواقعية، انطلاقا من البديهيتان والثوابت الوجدانية نبني ما نشاء. وكل علم وكل شيء يجب ان يصل إلى بديهة يقف عليها كما في كل العلوم، مثلا: الهندسة تقف على مسألة الخطان المتوازيان لا يلتقيان ولا دليل على هذه البديهة.
[3] الاتيان بالعبادة بقصد التقرب هو الذي ادخلنا في كل الاشكالات.
[4] الامر الغيري يتعلق بالوضوء بما هو عبادة، وعباديته إذا نشأت من الامر الغيري وقع الاشكال وهو الدور وهو خلف لان الأمر الغيري يتوقف على الوضوء العبادي، والعبادة تنشأ من تعلق الأمر الغيري وهذا دور. وأيضا خلف لأن عبادية الوضوء سابقة على تعلق الامر الغيري، فكيف تنشأ العبادية من الامر الغيري إذ هذا يقتضي تأخرها عنه، فيلزم أخذ المتأخر في المتقدم وهذا خلف.
[5] اشكاله نقضي وليس حلي.
[6] محاضرات في الاصول السيد ابو القاسم الخوئي. ج2 ص397.