الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

35/12/14

بسم الله الرحمن الرحیم

  العنوان: الامتثال بعد الامتثال
قلنا ان هناك مقدمات قبل الوصول إلى المختار نذكِّر بها:
  أولا: المأمور به يساوي غرض المولى، لأن الحكم يحدث مع حدوث الغرض، ويبقى مع بقائه، وينتفي مع انتفائه.
  ثانيا: يسقط الأمر بسقوط الغرض، وهذا موجود في المقدمة الاولى.
  ثالثا: يتحقق الغرض بتحقق متعلّق الأمر ولو بفرد واحد، كما هو قضية الأصل اللفظي في الأوامر.
  رابعا: انتفاء الأمر يدل على انتفاء ملاكه، وهذا لا يدل على انتفاء المحبوبية.
  خامسا: مع انتفاء الأمر لا تنتفي المحبوبية لبقيّة الأفراد فيبقى حسنها.
  سادسا: الثواب أوسع من وجود أمر أو حكم، أي قد يكون هناك ثواب من دون حكم. ولذا نجد أن أكثر الفقهاء استدل بروايات " من بلغه ثوابا على عمل فعمله رجاء ذلك الثواب كان له ذلك وإن كان رسول الله (ص) لم يقوله ". حيث اختلف الفقهاء بين من استدل بالروايات على ثبوت حكم استحبابي وهو ما سمّوه بقاعدة التسامح في أدلة السنن، وبين من أثبت الثواب دون الحكم بالاستحباب. بعبارة أخرى: هناك تفكيك وفرق بين ثبوت حكم استحبابي وبين ثبوت الثواب، أي لا نستطيع ان نقول ان الثواب يدور مدار الحكم والامر وجودا وعدما.
   سابعا: يمكن الاتيان بالمأمور به بداعي حسنه أو محبوبيته ولو لم يكن أمر به. [1]
  ثامنا: إن العقلاء يمدحون الآتي بالفعل الحسن والمحبوب وإن لم يكن أمر به، وهنا ثلاث حالات:
 تارة: نعلم بثبوت رغبة المولى فيه ومحبوبيته، وهذا لا شك في مدح العقلاء له. 
 وتارة: نشك في ثبوت الرغبة والمحبوبية، وهنا قد يمدح العقلاء من يقوم به على تأمل.
  وأخرى: إذا ثبت عدم حسنه فلا شك في انتفاء المدح.
  تاسعا: إن مدح العقلاء كاشف عن حسن الفعل ومحبوبيته، فيثبت للفاعل الثواب والأجر.
  عاشرا: إن افراد متعلق الأمر على نحوين:
-نحو يتساوى فيه الأفراد في تحصيل الغرض.
-ونحو آخر تتفاوت فيه الأفراد في تحصيل غرض المولى على نحو الكلي المشكك.
 إذا عرفت هذا فنقول: لا شك أن الفرد الأكمل محبوب، ومن يفعله ممدوح عند العقلاء، فنستكشف من ذلك محبوبية المولى له، فيصح الإتيان بفرد آخر، وذلك عند تفاوت الأفراد على نحو الكلي المشكك في تحصيل غرض المولى. وهذا ما لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه.
 إنما الاشكال في بقاء رغبة المولى للفرد الآخر بعد تحقق الفرد الأول، فنقول: إذا كان متعلق الأمر كليا مشككا في تحصيل غرض المولى، فهناك أفراد تندرج من الأقل إلى الأكمل، فلا شك في رغبة المولى للفرد الأكمل ومحبوبيته له، ولكن ملاك الحكم وإنشاء الأمر يختلف عن ملاك المحبوبية والمرغوبية، فمع تحقق الامتثال بالفرد الأقل يتم غرض المولى وملاكه في الحكم فيسقط، لكن المحبوبية تبقى، ولذا نرى العقلاء يمدحون من يأتي بالفرد الأكمل ولو بعد امتثال الأول، أما مع عدم تحصيل الغرض الأقصى كما ذهب إليه الشيخ الآخوند في الكفاية فواضح [2]، ومع الشك فيه فأيضا لا شك في مدح العقلاء له، وقد ذكرنا في المقدمة التاسعة أن مدح العقلاء كاشف عن محبوبية المولى، فيمكن الإتيان بالفعل مرّة أخرى بالفرد الأكمل بداعي عبوديته، ويكون صحيحا وله أثار الصحيح.
  نعم الاتيان بفرد آخر من دون مزية لا يمدحه العقلاء بل قد يعتبرونه سفها، وهذا كاشف عن عدم حب ورغبة المولى فيه. وأيضا مع العلم بعدم رغبة المولى فيه لتحقق الغرض الأقصى مثلا لا يمدح العقلاء من يأتي بفرد آخر.
  والخلاصة: إن الاتيان بفرد آخر ذو مزية وفضل هو إتيان صحيح، وتترتب عليه الآثار الشرعية. وبهذا تكون روايات إعادة الصلاة جماعة بعد الامتثال فرادى على طبق القاعدة العقلائية، ولا تخرج عنها فالإسلام دين الفطرة.
 نعم رواية استحباب إعادة صلاة الكسوف تدل على حكم استحبابي، ولعلّه من باب الاشتغال بصلاة الكسوف وأن يبقى الإنسان في عبادة وصلة بالله عز وجل، يؤيده تسميتها بصلاة الآيات عند الفقهاء، وفي الرواية أن الكسوف والخسوف آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد فهما علامة عظيمة على عظمته تبارك وتعالى.
  إضاءة: في الرواية: " إن الله تعالى يختار أحبهما إليه ". فهذه العبارة تشعر بعلّية استحباب الإعادة، لكنها لا تصل مرحلة الظهور، ولو وصلت إلى الظهور في العليّة كما لو قال: " فإن الله تعالى يختار " مع فاء السببية لأمكن استخراج قاعدة عامة منها وهي لا تتنافى مع حكم العقلاء.
  نتائج البحوث إلى الآن في مسائل صيغة الأمر كالتالي:
1-إن صيغة الأمر موضوعة للدلالة على النسبة الإيجادية وليس الابرازية.
2-إن الوجوب مستفاد من حكم العقلاء لا الوضع ولا الإطلاق ولا حكم العقل.
3-الجملة الفعلية والاسمية آكد في الدلالة على الوجوب من صيغة افعل.
4-أخذ قيد داعي الأمر أو غيره في التعبدي كبقية القيود، والأصل اللفظي أي مقتضى الإطلاق عند الشك عدمه. بعبارة أخرى: مفهوم التعبدي لا علاقة له بأخذ قيد الأمر أو غيره، بل هو مفهوم يقابله التوصلي موجود في الشرع، فيتعلق الأمر بهما على سنن واحد، ولا فرق بين: أقيموا الصلاة، وأوفوا بالعقود.    
5-إن مقتضى الأصل العملي عند الشك في عبادته شيء هو أن المسألة من تطبيقات مسألة أقل وأكثر ارتباطيين.
6-مقتضى إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسيا تعينيا عينيا.
7-إن الامر الواقع عقب الحظر او توهمه لا يدل على الاباحة ولا على الوجوب، وهو من تطبيقات ما شك في قرينية الموجود.
8-صيغة الأمر لا تدل على المرّة والتكرار، لا في الأفراد الطولية ولا العرضية، ولا في المادة ولا الهيئة وكل ذلك يحتاج إلى قرينة.
9-الامتثال بعد الامتثال ممدوح عقلا لسقوط الحكم بالامتثال الأول.
10-الاتيان بالفرد الأميز والاكمل بعد الامتثال جائز في حال مدح العقلاء فاعله، ويترتب عليه آثار الصحة.
 إلى هنا نكون قد اتممنا بحوث هذا العام الدراسي في علم الأصول.


[1] في بحث الترتب الميرزا النائيني (قده) يذهب إلى المنحى العقلائي ويخرج من مسألة الترتب بهذا التفصيل بين المحبوبية وبين الامر، أي وان لم يكن هناك امر فعليا لكن المرغوبية والمحبوبية تبقى
تذكير: ذكرنا ان هناك فرق بين سيرة العقلاء، وحكم العقلاء، وبناء العقلاء. حكم العقلاء حكم يجري كالعدل حسن، والله عز وجل رأس العقلاء. اما سيرة العقلاء فهي مسلكهم لأجل تغطية حاجات، من قبيل العمل بالخبر الواحد، العمل بالشهرة، او العادات والتقاليد. ولا دخل للشارع بسيرة العقلاء ولذلك قالوا بانها تحتاج إلى إقرار وإمضاء، اما حكم العقلاء ليس بحاجة لتقرير من الشارع. ولذلك لو صار العلم بالشيء على نحو القطع والجزم واليقين مساوا في اليسر لخبر الواحد، ينتفي الخبر الواحد عن الحجية كليا – هذا بحسب نظري القاصر-، لان حجية خبر الواحد لأسباب وهي ان الناس تحتاج لتبادل المعلومات وأيسر طريق هو خبر الواحد مع اقربيته إلى الواقع. أما بناء العقلاء في الاصطلاح يشمل الاثنين معا، تارة يطلق على السيرة، وتارة يطلق على الحكم.
[2] وقد اشكل السيد الخوئي (ره) وغيره على الشيخ الآخوند لان قد عبّر عن الغرض الأقصى كانه متحقق في ملاك الحكم، وكان قصده انه متحقق في ملاك محبوبة الفعل، ومع ذلك أي مع عدم تحقق الغرض الأقصى فالعقلاء يمدحون ذلك. والخلل في رأي صاحب الكفاية (ره) هو أنه اعتبره امتثالا، والحق أنه ليس امتثالا، لمنع ذلك عقلا، بل هو إتيان بفرد آخر، ونحكم على هذا الاتيان بالصحة.