الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

35/11/27

بسم الله الرحمن الرحیم

  العنوان: الفور والتراخي
 كان الكلام في دلالة الصيغة على الفور أو التراخي مع عدم القرينة. وقبل ذكر الأجوبة الأخرى نذكر اقوال العلماء في المسألة. 
 يقول الشيخ حسن بن الشهيد الثاني (ره) في كتاب معالم الدين، ذهب الشيخ (ره) وجماعة إلى أن الأمر المطلق يقتضي الفور والتعجيل، فلو أخّر المكلف عصى. وقال السيد (ره): هو مشترك بين الفور والتراخي [1]، وذهب جماعة منهم المحقق أبو القاسم ابن سعيد والعلامة (ره) إلى أنه لا يدل على الفور ولا على التراخي، بل على مطلق الفعل وهذا هو الأقوى.
نعود للآيتين ظاهرها الارشاد إلى حسن المسارعة، وحسن المسارعة الذي يحكم به العقل سببه: ان التسهيل يقتضي التراخي وفطرة البشر والارتكازيات عندهم تقتضي المسارعة، وذلك ان الانسان في طبعه يحب نفسه فلولا الأنا ما عبد الله، غالب الناس يعبدون الله طمعا بالجنة او خوفا من النار، نعم عبادة الاحرار قلّة، وهذه المسالة وجدانية فطرية لا تحتاج لدليل ولا امر ولا دفع ولا زجر، لذلك ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ تعود لنفس الانسان وعود المصلحة لنفس الشخص والذات. فكأن الله تعالى يعيد الانسان إلى فطرته لأنه قد لا يلتفت بان مصلحتك في المسارعة والمبادرة، هو يعرف ذلك ولكنه قد يغفل عنه من قبيل " اعدلوا هو اقرب للتقوى " فقد يغفل عنه لهواه، الله عز وجل في القرآن يرشد إلى هذه الأمور. وذكرنا سابقا ان بعض القطعيات لم تذكر في القرآن كـ " النقيضان لا يجتمعان " , بخلاف بعض القطعيات مثل حسن العدل: " اعدلوا هو اقرب للتقوى " فقد ذكرت، والمعروض ان الأمور القطعية المقطوع به لا يبينه القرآن الكريم لأنها أمور معلومة والفرق بينهما أن حسن العدل أمر معلوم لكن قد يغفل عنه الانسان نظرا لغلبة الهوى، لغفلته عن العدل قد يظلم أحيانا، لذلك ارشد الله لذلك رغم ان قضية العدل حسن من القطعيات، من التأديبات الصلاحية. اما " الواحد زائد اثنان" و " النقيضان لا يجتمعان "  فلا يخالف هوى أحد. لذلك ارشد الله إلى الأمور التي يغفل عنها.                    
الأجوبة الأخرى أكثرها أجوبة نمطية مذكورة في كتب الأصول سنتعرض لبعضها.
 الجواب الاخر: إنه لو كان مولويا للزم تخصيص الأكثر، وهو تخصيص مستهجن عرفا، فإن أكثر المأمور به هو من المستحبات. ولا معنى لكون أمر مستحب في نفسه ويجب الفور في امتثاله [2]. ولذلك لو تمّ كون الأمر مولويا لوجب حمله على الاستحباب والافضلية.
 ومن هنا نقول: إن مقتضى الفطرة البشرية هو الفورية [3] وذلك لرغبة الإنسان في تعجيل الخير وتحقيقه، ومقتضى التسهيل في الشريعة " جئتكم بالشريعة السمحاء " هو التراخي وعدم التقييد بأول أزمنة الإمكان. ولكن الكلام في دلالة الصيغة ووضعها.  
ولهذه اللفتة " إن مقتضى الفطرة البشرية هو الفورية ومقتضى التسهيل هو التراخي " ثمرتها ستاتي في التتمة التي ذكرها صاحب الكفاية (ره)، " إذا قلنا بالفورية وعصينا الأمر في الآن الأول فهل تبقى الفورية في الآن الثاني "، هذه اللفتة تعني انه إذا بقي الامر يبقى امره فوريا [4]. حيث إن حسن التعجيل يبقى ولو مع عدم الإتيان في الزمن الأول.
  ولا بأس هنا بذكر ما ذكره صاحب المعالم (ره) في سرد أدلة من قال بالفور، ليكون نظرة وإطلالة على كيفية استدلال المتقدمين في المسائل الأصولية. ثم بعد ذلك إيراد ما ذكره السيد المرتضى (ره) في الاستدلال على الاشتراك بين الفور والتراخي. ثم سننتهي إلى المختار بانها لا تدل لا على الفورية ولا على التراخي.
 يقول صاحب المعالم: ص 56 حجة القول بالفور أمر ستّة [5]:
الأول - أن السيد إذا قال لعبده: اسقني، فأخر العبد السقي من غير عذر، عد عاصيا، وذلك معلوم من العرف. ولولا إفادته الفور، لم يعد عاصيا.
وأجيب عنه: بأن ذلك إنما يفهم بالقرينة، لان العادة قاضية بأن طلب السقي إنما يكون عند الحاجة إليه عاجلا، ومحل النزاع ما تكون الصيغة فيه مجردة.
الثاني: أنه تعالى ذم إبليس لعنه الله، على ترك السجود لآدم عليه السلام، بقوله سبحانه: ﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾ [6]ولو لم يكن الامر للفور لم يتوجه عليه الذم، ولكان له أن يقول: إنك لم تأمرني بالبدار، وسوف أسجد.
والجواب: أن الذم باعتبار كون الامر مقيدا بوقت معين. ولم يأت بالفعل فيه. والدليل على التقييد قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [7].[8]
الثالث: أنه لو شرع التأخير لوجب أن يكون إلى وقت معين، واللازم منتف. أما الملازمة، فلانه لولاه لكان إلى آخر أزمنة الامكان اتفاقا، ولا يستقيم، لأنه غير معلوم، والجهل به يستلزم التكليف بالمحال، إذ يجب على المكلف حينئذ أن لا يؤخر الفعل عن وقته، مع أنه لا يعلم ذلك الوقت الذي كلِّف بالمنع عن التأخير عنه. وأما انتفاء اللازم فلانه ليس في الامر إشعار بتعيين الوقت، ولا عليه دليل من خارج.
والجواب: من وجهين: أحدهما - النقض بما لو صرح بجواز التأخير، إذ لا نزاع في إمكانه.
 وثانيهما - أنه إنما يلزم تكليف المحال لو كان التأخير متعينا، إذ يجب حينئذ تعريف الوقت الذي يؤخر إليه. وأما إذا كان ذلك جائزا فلا، لتمكنه من الامتثال بالمبادرة، فلا يلزم التكليف بالمحال.
الرابع: قوله تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾[9]، فان المراد بالمغفرة سببها، وهو فعل المأمور به، لا حقيقتها، لأنها فعل الله سبحانه، فيستحيل مسارعة العبد إليها، وحينئذ فتجب المسارعة إلى فعل المأمور به. وقوله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ﴾[10]، فان فعل المأمور به من الخيرات، فيجب الاستباق إليه. وإنما يتحقق المسارعة والاستباق بأن يفعل بالفور.
وأجيب: بأن ذلك محمول على أفضلية المسارعة والاستباق، لا على وجوبهما، وإلا لوجب الفور، فلا يتحقق المسارعة والاستباق، لأنهما إنما يتصوران في الموسع دون المضيق، ألا ترى أنه لا يقال، لمن قيل له " صم غدا "، فصام " إنه سارع إليه واستبق ". والحاصل: أن العرف قاض بأن الاتيان بالمأمور به في الوقت الذي لا يجوز تأخيره عنه لا يسمى مسارعة واستباقا، فلابد من حمل الامر في الآيتين على الندب، وإلا لكان مفاد الصيغة فيهما منافيا لما تقتضيه المادة. وذلك ليس بجائز فتأمل!.


[1] سنتعرض لاحقا لأدلة السيد المرتضى (ره) على الاشتراك، فعندما أسس قاعدة ان الاستعمال علامة للحقيقة فهي تقتضي أشياء الكثيرة. فكل ما ستعمل في الفور واستعمل في التراخي هو مشترك بين اثنين. وما استعمل في الاستحباب واستعمل في الوجوب فهو مشترك بين الاثنين.
[2] قد يقال انه مستحب ويجب ان نفعله مباشرة لأنه هذا وقته، فإنه يقال إنه يكون حينئذ مقيدا بهذا الزمن، لهذا تصبح هذه المسألة من باب المضيق والموسع، والمؤقت وغير المؤقت.
[3]  ردا على اشكال ان الفطرة هي دليل؟. الجواب: ان الفطر هي اهم دليل " الإسلام دين الفطرة " حتى في الاحكام الجزئية لوجود الرواية عن الامام الصادق (ع) في معرفة الحلال من الحرام، كان الجواب: انظر إلى نفسك تعرف الحلال من الحرام. الفطرة في حسن التعجيل هي حب الخير. والخير هو في امتثال الحكم الشرعي
 سؤال: ماذا عن دين الله لا يصاب بالعقول؟. الجواب: هذه المصالح الواقعية للأحكام، وقد تصل إليها الفطرة الصافية.
[4] الفرق بين اقتضاء الفطرة البشرية واقتضاء الحكمة: الفطرة البشرية تقتضي الفورية اما الحكمة تقتضي ما فيه مصالح الناس، قد تشمل الفطرة أي الفورية وتشمل ما فيه الفور والتراخي.
[5] معالم الدين وملاذ المجتهدين، الشهيد الثاني، ج1، ص56.
[6] اعراف/سوره7، آیه12.
[7] حجر/سوره15، آیه29.
[8] نلاحظ هنا ان الاستدلال غالبا ما هو بالاستعمالات، وهو استدلال فطري طبيعي لفهم لغة العرب من خلال المحاورة. ولكن مكمن الخلل في هذا النمط من الاستدلال هو انهم لم يفرقوا بين الاستعمال والتبادر. التبادر هو علامة للحقيقة بخلاف الاستعمال.
[9] آل عمران/سوره3، آیه133.
[10] مائده/سوره5، آیه48.