الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

35/07/29

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: النفسي والتعييني والعيني.

  بعد التذكير بالأصل اللفظي نصل للأصل العملي. لم يتطرق صاحب الكفاية (ره) للأصل العملي وتركه آخرون إلى مسألة المطلق والمشروط.
 ولعلّ الدافع في التأخير أنهم في مباحث الالفاظ ذكروا ان الظهور اللفظي، الأصل اللفظي يعني الامارة، أي الدليل الاجتهادي، أما الدليل الفقاهتي فليس من شؤون مباحث الالفاظ بل هو من شؤون الأصول العملية عند فقد الأصل اللفظي.    
 وأما على صعيد الأصل العملي مع فقد كل هذه الأدلة، فقد يقال بجريان أصالة الاشتغال في حال تعلّق الأمر بفعل وشككنا في كونها تخييريا، أو تعلق الأمر وشككنا في كونه كفائيا، فعمل المكلف في الأول بفرد آخر، وفي الثاني قام به شخص آخر، فقد يقال بأصالة الاشتغال لأن التكليف معلوم وأشك في سقوط الامتثال فيما لو قام به شخص آخر، ومع الشك في الامتثال تجري أصالة الاشتغال التي تقتضي الاحتياط والعقل يحكم بأن " الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني" قاعدة الاشتغال دليل على الاحتياط. وكمصطلح وفي مقام المعنى اللفظي الاحتياط عمل أقوم به لبراءة الذمة دليله الاشتغال.[1]
الاحتياط يأتي عند القطع والعلم بالتكليف والشك في الامتثال، والبراءة تأتي عند الشك في التكليف فالأصل عدم التكليف. هنا ماذا يقتضي الأصل العملي مع فقد الظهور وشككنا في أمر الآمر انه عيني أو كفائي. وبعبارة أخرى: هل يجوز أن يقوم غيري مقامي في تنفيذ الأمر؟ هل المطلوب فعل المأمور به من أي شخص؟ وهكذا القسمين الآخرين.
  قالوا في المطلق والمشروط إذا شككت في اشتراط شيء الأصل اللفظي طرد الاشتراط، مثلا في الصلاة أو البيع اشك في شرط، هذه المسألة مرت في الصحيح والاعم وقلنا أن من الثمار ان الألفاظ إذا كانت موضوعة للأعم أقول هذه صلاة واشك في وجوب جلسة الاستراحة، فالأصل عدمها لفظا وظهورا. في مقام المطلق والمشروط الأصل اللفظي الاطلاق وهو عدم الشرط، أما الأصل العملي هو من تطبيقات مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين. وعند الشك في عبادة في أي شرط يكون من مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين وهناك ذهب الأكثر إلى البراءة وبعضهم إلى الاحتياط.
 وللتذكير: الفرق بين مسألة الصحيح والاعم والاقل والأكثر الارتباطيين هو ان الصحيح والاعم مسألة لفظية، امارة، ماذا تقتضي، أي دليل اجتهادي. أما مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين فهي نفس الموارد لكنها في مقام الأصل العملي.
 في المطلق والمشروط في مقام الأصل اللفظي كما ذكرنا في الصحيح والاعم وجعلتها في وسيلة المتفقهين قاعدة عامة: كل ما شككت في عبادة، كل العبادات في الصوم الصلاة الحج وغيرها، إذا شككت في شرط أو جزء أو مانع أو رافع أو قاطع أو أي قيد، في مقام الأصل اللفظي اطرد هذه الشروط، وفي مقام الأصل العملي فهي من تطبيقات مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، وهناك قال الأكثر بالبراءة وقال بعضهم بالاحتياط وانا منهم.
  لكن مع هذا البحث في المطلق والمشروط فلا بأس بالتفكيك بين المطالب: في النفسي والغيري في مقام الأصل العملي للوهلة الأولى نقول بالاحتياط، لأننا نعلم بالتكليف إجمالا وهو مردد بين نفسي والغيري، فالاشتغال اليقيني موجود يستدعي الفراغ اليقيني، إذن يجب أن احتاط، مثلا: } إن كنتم جنبا فاطهروا {، هل الطهارة مطلوبة لذاتها مع الجنابة أو انها مقدمة للصلاة؟ فإذا شككت في المقدمية أقول: الامر موجود " إن كنتم جنبا فاطهروا " فاعلم بالتكليف واشك في الامتثال، فإذا سقط وجوب الصلاة لأمر ما فهل تبقى الطهارة التي هي مقدمة للصلاة على وجوبها؟ فإذا كان امرها نفسيا تجب الطهارة، وإذا كان غيريا يسقط الوجوب لأنه لأجل غيرها، مع سقوط الواجب يسقط وجوبها. فاشك ان الطهارة نفسية أو غيرية؟ ففي هذه الحالة عند الشك قد يقال بأن الأصل الاحتياط لأن الوجوب قطعا موجود، العلم بالتكليف فنجري قاعدة " الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ".                 
 ولكن مع التأمل نجد أن الشك في أصل التكليف إذ التكليف مردد بين كونه متعلقا به نفسي أو كونه مقدمة للصلاة، فإذا سقط وجوب الصلاة حينئذ هل يبقى العلم بالتكليف بالطهارة؟ مثلا: في النفسي والغيري، في الاستحاضة في وجوب الغسل الليلي لصحة الصوم. إذا سقط وجوب الصوم لأمر ما، هل يبقى وجوب الغسل الليلي؟ فإذا لم يبق أصلا وجوب للصوم كيف نصحح البقاء اليقيني لوجوب الغسل. فمع سقوط المقيّد ذي المقدمة هل يبقى علم بالتكليف؟ مع فقد الاشتغال اليقيني لا يبقى شيء يستدعي الفراغ اليقيني، وعليه الأصل البراءة، لان البراءة عند الشك في التكليف.
 الفقهاء أجلّوا بحث مسألة الأصل العملي إلى مسألة المطلق والمشروط، حيث بحث ان اللفظ ماذا يقتضي ثم بحثوا الأصل العملي وذهب اكثرهم هناك إلى البراءة.
 هذا في النفسي والغيري أما في العيني والكفائي، فالأصل الاحتياط لان الفعل مطلوب مني على كل حال، إما مني شخصيا أو مني ومن غيري. لكن لو فرضنا انه قام به غيري هل يسقط عني أو لا؟ هل يمكن ان أتصور علما بالتكليف شخصيا فيكون هناك اشتغال؟ وإذا قام به غيري هل يسقط التكليف أو لا؟ هل هناك علم بتكليف متعلق بي شخصيا؟
العلم هنا اجمالي بيني وبين غيري، لوجود الخطاب والامر، والعلم الإجمالي اطرافه أنا أو شخص آخر. فإذا كانت المسؤولية شخصية هنا فالعلم الإجمالي هنا لا يتنجز ومع عدم تنجزه فلا يكون هناك علم بالتكليف الشخصي.
ولكن يمكن أن يقال: إن العلم بالتكليف موجود لا محالة، كل ما في الأمر انه دائر بين أن يكون متعلقا بي شخصيا، أو بي وبغيري، وإن قلنا إن التكليف سنخ من الوجوب، فمعنى ذلك أن الوجوب معلوم فتجري قاعدة الاشتغال. وهكذا الحال في التعيني والتخييري حيث إن الوجوب معلوم لاسيما إذا قلنا إن التخييري سنخ من الوجوب فالوجوب معلوم والشك في المحصل.                     
  ملخص ما مرّ في مسألة النفسي والعيني والتعييني: تارة الكلام في الأصل اللفظي، وتارة في الأصل العملي.
في الأصل اللفظي: قالوا عند الشك بظهور الصيغة في النفسي والعيني والتعييني، بتوجيهات أربعة: إما بإطلاق اللفظ، وإما بالانصراف، أو باللازم، أو بحكم العقلاء. ومع فقد الأصل اللفظي نأتي إلى مرحلة الأصل العملي.
الأصل العملي: للوهلة الأولى الاحتياط، ولكن ذكروا في الواجب المطلق والمشروط ان الأصل العملي أي الدليل الفقاهتي هو من تطبيقات مسألة الاكثر والاقل الارتباطيين، وهناك ذهب الأكثر إلى البراءة، اما نحن فنذهب إلى الاحتياط، ومع الاحتياط تجري قاعدة الاشتغال لذلك فصلنا بين هذه الأمور.
 غدا إن شاء الله نبحث مسألة الامر عقب الحظر.



[1] استطراد: الاشتغال يفترق عن الاحتياط مفهوما، لأن الاحتياط عمل اتيقن معه ببراءة الذمة من الواقع المجهول. أما الاشتغال فهو اشتغال الذمة بالتكليف، فهو دليل على وجوب الاحتياط. واستعمال أحدهما مكان الآخر فهو بعلاقة مجازية مصححة.