الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

35/06/16

بسم الله الرحمن الرحیم

  العنوان: الأوامر. التعبدي والتوصلي.
-نقاش كلام السيد الخميني (ره).
-الكلام في بعض الأبحاث.
نعود لكلام السيد الخميني (ره) في مناهج الوصول يقول: وفيه أولا ان دعوى القطع بعدم الامرين بهذا النحو ممنوعة، بل يكون مدّعي القطع بخلافه غير مجازف، ضرورة أن الفاظ العبادات موضوعة لمعنى غير مقيّد بشرائط آتية من قبل الأمر [1]، فحينئذ لا تكفي الأوامر المتعلّقة بنفس الطبائع لافادة مثل هذا القيد ولو قلنا بجواز أخذه في المتعلق، فلا بد للمولى في مقام إفادته: إما من بيان متصل لو جاز، والمفروض عدم الجواز، بل مع جوازه ليس منه في الأوامر المتعلقة بالطبائع عين ولا أثر. وأما من بيان منفصل، وقد قام الاجماع بل الضرورة على لزوم قصد التقرب أو الأمر أو نحو ذلك في العبادات وهو يكشف عن أمر واحد. [2]
نقاش كلام السيد الخميني (ره):
  هذا البيان المنفصل إن كان اجماعا أو ضرورة كما ذكر (ره) فننقل الكلام إلى هذا الاجماع فهو كاشف عن رأي المعصوم، ورأي المعصوم إن كان امرا رجعت جميع الإشكالات، وإلا فمن أين نشأت العبادية؟ فلا بد أنه نشأ من كون المتعلق عباديا أما ذاتا وإما اعتبارا من المولى، فيكشف عن اعتبار من المولى في مرحلة سابقة على الأمر، وهذا ما ذهبنا إليه.
  بقي الكلام في خمسة نقاط:
-هل استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق.
-في الأصل اللفظي.
-في الاطلاق المقامي
-في الأصل العملي.
-في بقية الدواعي القربية كقصد المصلحة أو الحسن أو أن الله أهل للعبادة.
أولا: استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق.
قلنا ان الأصل اللفظي يحتاج إلى ان يكون التقييد ممكنا ومع عدمع نصل إلى الاطلاق اللفظي، اما الأصل العملي فيحتاج إلى ان يكون التقييد غير ممكن فالاطلاق يصبح مستحيلا ثم يأتي الأصل العملي.
 بعد هذه المقدمة نقول ان بعضهم قال باستحالة التقييد وبعضهم بعدم استحالة التقييد. ثم بناء على من قال باستحالة التقييد فهل تستلزم استحالة الاطلاق فينتفي الأصل اللفظي؟ ذكرنا سابقا ان مقدمات الحكمة هي: ان يكون في مقام بيان وأمكن ان يبيّن ولم يبيّن. إذا كان لا يستطيع أن يبيّن هل يعني ذلك انه إطلق؟
 بعضهم قال ان استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق وهو قول النائيني (ره)، وبعضهم قال ان استحالة التقييد تستلزم الاطلاق وهو قول السيد الخوئي (ره).
منشأ هذا الكلام من ان: هل الاطلاق والتقييد من قبيل الملكة والعدم [3] أو من قبيل المتضادين.
 فإن كان من قبيل الأول فإن استحالة التقييد تقتضي استحالة الاطلاق، لأن الاطلاق حينئذ هو عدم القيد فيما من شأنه أن يقيّد، ومع الاستحالة لا يكون من شأنه ذلك.
  وإن كان من قبيل الثاني فإن استحالة التقييد لا تقتضي استحالة الاطلاق، لأن استحالة أحد الضدين لا تعني استحالة الآخر، بل يقال هي تستلزم وجود أحد الأضداد الأخرى، وإذا كان التضاد ثنائيا فهي تستلزم وجود الآخر. أي ان الاطلاق ليس مجرد عدم قيد بل هو نظر إلى كل الافراد فردا فردا وقصد لحاظ عدم التقييد.   
       ذكر المحقق النائيني (ره) أن استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق لكونها من قبيل الملكة والعدم. والملكة والعدم هما أمران متنافيان وجودي وعدمي فيما من شانه الملكة. يعني أن قابلية التقييد مأخوذة في الملكة، ومع استحالة التقييد يكون الفعل غير قابل للملكة فلا يكون قابلا للتقييد.
  ويجيبه السيد الخوئي (ره) في المحاضرات بما ملخصه: انه إذا كان هناك ضدان فاستحالة أحدهما تقتضي وجود احد الأضداد الأخرى لان الموضوع لا يستغني عن صفة، في مثل الألوان المتضادة إذا امتنع السواد لا بد من احد الألوان الأخرى، ولو فرضنا كان التضاد ثنائيا إما الأسود او الأبيض، فإذا انتفى السواد ثبت البياض. فاستحالة التقييد تقتضي ثبوت الاطلاق.
 يقول السيد الخوئي (قده): وأما الدعوى الثانية - وهي أن استحالة التقييد تستلزم ضرورة الإطلاق أو ضرورة التقييد بخلافه [4] - فلأن الإهمال [5] في الواقعيات مستحيل، وذلك لأن الغرض الداعي إلى جعل الحكم واعتباره لا يخلو: إما من أن يقوم بالطبيعي الجامع بين خصوصياته من دون مدخلية شيء منها فيه، أو يقوم بحصة خاصة منه، ولا ثالث لهما.
 فعلى الأول: لا محالة يلاحظه المولى في مقام جعل الحكم واعتباره على نحو الإطلاق.
 وعلى الثاني: لا محالة يلاحظ تلك الحصة الخاصة منه فحسب.
 وعلى كلا التقديرين فالإهمال في الواقع غير معقول، فالحكم على الأول مطلق، وعلى الثاني مقيد. ولا فرق في ذلك بين الانقسامات الأولية والثانوية [6]، بداهة أن المولى الملتفت إلى انقسام الصلاة مع قصد الأمر وبدونه خارجا وفي الواقع بطبيعة الحال [7]:
-إما أن يعتبرها في ذمة المكلف على نحو الإطلاق.
-أو يعتبرها مقيدة بقصد الأمر.
-أو مقيدة بعدم قصده.
-ولا يتصور رابع لأن مرد الرابع إلى الإهمال بالإضافة إلى هذه الخصوصيات، وهو غير معقول، كيف؟ حيث إن مرجعه إلى عدم علم المولى بمتعلق حكمه أو موضوعه من حيث السعة والضيق وتردده في ذلك، ومن الطبيعي أن تردده فيه يستلزم تردده في نفس حكمه وهو من الحاكم غير معقول.
 وعندئذ إذا افترضنا استحالة تقييدها بقصد الأمر فبطبيعة الحال تعين أحد الأمرين الآخرين، هما: الإطلاق أو التقييد بخلافه.
  وإذا فرضنا أن التقييد بخلافه أيضا مستحيل - كما هو كذلك - حيث إن الغرض من الأمر هو كونه داعيا فلا معنى لتقييد المأمور به بعدم كونه داعيا فلا محالة يتعين الإطلاق.
 وعلى الجملة: فلازم ما أفاده (قده) [8]: من أن استحالة التقييد في مورد تستلزم استحالة الإطلاق فيه إهمال الواقع، وأنه لا يكون مقيدا به ولا يكون مطلقا، وقد عرفت أن مرجع هذا إلى عدم علم الحاكم بحدود موضوع حكمه أو متعلقه من حيث السعة والضيق، وهو غير معقول.
 وعليه حيث استحال تقييد المأمور به كالصلاة - مثلا - بقصد الأمر على مختاره (قده) للوجوه المتقدمة من ناحية، واستحال تقييده بعدم قصده من ناحية أخرى، حيث إنه على خلاف الغرض من الأمر فالإطلاق ضروري، يعني: أن المأمور به هو الطبيعي الجامع بلا دخل لقصد الأمر فيه وجودا وعدما. ولا فرق في ذلك بين قيود الموضوع وقيود المتعلق، وكذا لا فرق بين القيودات الأولية والقيودات الثانوية، ضرورة أن الإهمال كما لا يعقل بالإضافة إلى القيودات الأولية كذلك لا يعقل بالإضافة إلى القيودات الثانوية، فإن الحكم المجعول من قبل المولى الملتفت إلى تلك القيودات لا يخلو: من أن يكون مطلقا بإطلاق موضوعه أو متعلقه بالإضافة إليها، يعني: لا دخل لشيء منها فيه، أو يكون مقيدا بها، ولا ثالث في البين.
 وعليه فإذا افترضنا استحالة التقييد بقيد فلا محالة أحد امرين ضروريين: إما الإطلاق، أو التقييد بغيره، لاستحالة الإهمال في الواقع. والى ذلك أشار شيخنا العلامة الأنصاري (قده) بقوله: من أنه إذا استحال التقييد وجب الإطلاق.
 نعم، الإهمال في مقام الإثبات والدلالة أمر معقول، وذلك لأن المولى إذا كان في مقام البيان: فإن نصب قرينة على التقييد دل كلامه على ذلك، وإن لم ينصب قرينة على ذلك دل على الإطلاق. وأما إذا لم يكن في مقام البيان وكان في مقام الإهمال والإجمال: إما لأجل مصلحة فيه، أو لوجود مانع لم يدل كلامه لا على الإطلاق ولا على التقييد، وأصبح مهملا فلا يمكن التمسك به. ولعل من هذا القبيل قوله تعالى: } وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة {، فإن الآية الكريمة تشير إلى وجوب القصر عند تحقق الضرب في الأرض، ولكنها أهملت التعرض لمقدار الضرب وتحديده بحدوده الخاصة، فتكون مهملة من هذه الناحية فلا يمكن التمسك بإطلاقها. وأمثلة ذلك كثيرة في الآيات والروايات، إلا أن الإطلاق والتقييد في مقام الإثبات خارج عن محل البحث هنا، حيث إنه في الإطلاق والتقييد في مرحلة الثبوت والواقع كما عرفت. [9]
إذن النتيجة ان التقييد والاطلاق من باب الضدان وليس من باب العدم والملكة لان كلامنا في عالم الثبوت والواقع وليس في عالم الاثبات.

  أما في الأصل اللفظي [10]:
  بناء على عدم استحالة أخذ قصد الأمر في متعلّقه، فيمكن تقييد المأمور به بقصد الأمر فالأصل اللفظي هو الاطلاق مع انطباق العنوان، وذلك كباقي القيود.
  وبناء على الاستحالة لكنها لا تستلزم استحالة الاطلاق فكذلك يمكن التمسك بالإطلاق، بل يجب التمسك بالإطلاق إذا دلّت عليه.
  وبناء على ما ذهبنا إليه من كون العبادية سابقة على الأمر فكذلك يمكن التمسك بالإطلاق لصدق عنوان المأمور به بدون قصد العبادية.
  وأما بناء على استحالة أخذ قصد الأمر في المتعلّق مع التلازم بين استحالة التقييد واستحالة الاطلاق فلا يمكن التمسك بالإطلاق، فذهب بعض هؤلاء إلى التمسك بالإطلاق المقامي [11].
غدا نكمل ما هو الاطلاق المقامي وما هو الأصل العملي ان شاء الله وننهي البحث.

والحمد لله رب العالمين.



[1] أي ان المفهوم لا علاقة له بداعي الامر، الألفاظ موضوعة لمعان غير مقيدة بداعي الامر. كلامه (ره) ان هذا القيد ليس موجودا. .
[2] مناهج الوصول ج 1 ص 269.
[3] في المنطق ذكر ان الملكة والعدم امران متقابلان وجودي وعدمي فيما من شأنه ان يكون فيه هذه الصفة، إذن الشأنية والقابلية موجودة. أما الضدان: امران وجوديان متقابلان لا يجتمعان في مكان واحد وزمان واحد وجهة واحدة. وللتذكير ما الفرق بين المتقابلين والمتخالفين: المتخالفان لا يجتمعان في مكان واحد وزمان واحد وجهة واحدة، وقد يرتفعان كالطاولة والكتاب، والضدان كذلك كالاسود والأبيض، الشيخ المظفر (ره) أضاف كلمة زيادة وهي .المتنافران للتفريق بين المتخالفين والمتقابلين، لان في التقابل تنافر كما في الاعمى والبصير والأب والابن، بخلاف المتخالفين.         
[4] وذلك في عالم الثبوت لأنه في عالم الاثبات يستحيل التقييد. .
[5] الإهمال هو عدم النظر إلى حكم الفرد، والاجمال هو قصد الإهمال وعدم لحاظ الافراد. .
[6] التقسيمات الأولية هي تقسيمات نفس الفعل، أما الثانوية هي تقسيمات بلحاظ الطوارئ الناشئة عليها من قبل الامر، كالعلم بالأمر أو داعي الامر أو قصد الامر إلى آخره.   .
[7] هناك اربعة احتمالات. .
[8] أي استاذه الشيخ النائيني (ره).
[9] محاضرات في أصول الفقه، تقرير بحث السيد الخوئي للفياض، ج 2، ص 177.
[10] لدينا اطلاقات ثلاثة: أصل لفظي واصل عملي واصل مقامي. ذكرنا في المنهجية عند الشك في الشبهة الحكمية نرجع إلى: علم، فان لم نجد نرجع إلى علمي، فان لم نجد نرجع إلى أصل لفظي الذي هو من أواخر درجة العلميات. والاصل اللفظي هو ان هناك لفظ اشك سعته لجميع الأفراد أو ضيقه، فالأصل اللفظي يتعلق بنفس اللفظ وهذا سينفعنا في تحديد الأصل المقامي هل هو اصل عملي، أم هو اصل لفظي؟ أم لا هذا ولا ذاك؟ وسنصل إلى انه امارة قائمة بذاتها عرفا.       .
[11] الشيخ المظفر(ره) يقول انه ليس أصلا لفظيا لانه لا يقيد اللفظ، وليس أصلا عمليا، بل نسميه الاطلاق المقامي.    .