الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

35/06/14

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: الأوامر
التعبدي والتوصلي.
ملخص ما مضى: ان التعبدي على قسمين:
 القسم الأول: التعبدي ذاتا، كالصلاة والصوم والحج، بمعنى أن التعبدي من جوهره ومن صلب المفهوم، وهذا مقطوع العبادية، وقد تعلّق الأمر به بعد عباديته. ونستفيد من هذا القسم انه دليل على أن عبادية الفعل شيء والأمر به شيء آخر، ومفهوم العبادية لا يختلف بين مقطوع العبادية ومشكوك العبادية [1]. وإلا لو كانت العبادية ناشئة من الأمر كقصده مثلا، فهل إذا كانت العبادية ذاتيه لا تأتي هذه الإشكالات من أخذ المتأخر في المتقدم أو الدور، أو داعوية الشيء إلى نفسه، أو اتحاد اللحاظ الاستقلالي والآلي. في الحقيقة هو اشكال واحد صور بأربع إشكالات ؟! بهذه الاستفادة نكون قد خرجنا من الاشكال وسنستفيد من النتيجة أيضا في القسم الثاني.
القسم الثاني: ما فيه قابلية التعبد، فيكون توصليا ثم بنقل الشارع يصبح تعبديا، أي تَصرَّف الشارع بالمفهوم. وهذا ممكن، وليست العبادية دخيلة في مفهومه ذاتا وهو يحتاج إلى نقل وتصرف بالمفهوم، فيحتاج إلى بيان ودليل، والبيان شيء والأمر به شيء آخر. بر الوالدين أو الصدقة [2] مثلا، الصدقة في الأصل ليست عبادية، وهي موجودة عند كل البشر حتى الكفار الذين لا يدينون بدين. مفهومها في الأصل اللغوي توصلي، ونقلها الشارع إلى التعبدي ببعض البيانات، ثم تعلق الأمر بها. إن الامر بالصدقة لم يجعلها عبادة. في الأصل هي توصلية وارادها المولى عبادة كما ورد في بعض الروايات من انه للإنسان إذا تصدق ان يقبل يده فانه يقبل يد الله، وفي الصوم قال تعالى: الصوم لي وانا أجزي به. هناك بيان بعبادية الصوم والصدقة، ثم بعد ذلك يتعلق الأمر بها، أي بعد اعتبارها عبادة يتعلق الأمر بها وجوبا أو استحبابا أو غير ذلك.  
 وبالنتيجة: إن التعبدية على قسميها: الذاتي والاعتباري لا بد أن تكون سابقة على الأمر ثم يتعلق الامر به، ولا فرق في تعلق الأمر الناشيء من الصيغة بين قوله تعالى: } أقيموا الصلاة { وقوله تعالى: } أوفوا بالعقود {، وهذا القسم الثاني يحتاج إلى دليل وبيان للنقل، والاصل عدمه وعدم النقل. بهذا ينحل الاشكال جذريا لانه ناشيء من توهم كون العبادية ناشئة من قصد الامر. ونحن قلنا إن هذا توهم باطل فإن العبادة سابقة على الامر بالفعل لانها شيء والامر شيء آخر.
 توضيح لمعنى الارشادي: مثلا تحنيط الميت أو دفنه في الأصل هو توصلي ويأتي المولى ويطلب ان يكون عبادة، هنا وقع تدخل الشارع واتى البيان لتوسيع المفهوم ارشادا للنقل.
 وكون الواجب عباديا لا يعني انه يجب الاتيان به، لذلك المستحبات العبادية لا يجب الاتيان بها، والعبادات كي تصبح واجبة لا بد لها من امر كـ } اقيموا الصلاة { وهو امر مولوي وليس امرا ارشاديا، الارشادية تكون في متعلق الامر الذي كان توصليا وتم توسيع المفهوم ليصبح عبادة، هذا في القسم الثاني أو أن العبادية جزءا من المفهوم أصلا. ثم أصبح واجبا بأمر الشارع: " صلوا كما رأيتموني اصلي ". إذن فليس كل عبادي واجبا بالفطرة بالمعنى الاعم ففي الحديث الشريف رواية سماعة عندما نزل قوله تعالى: } ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا { [3] سأل أفي كل عام يا رسول الله، سكت الرسول (ص) ثم اعيد السؤال أكثر من مرّة، فأجاب الرسول (ص): وما ادراك ان أقول في كل عام فيصبح واجبا في كل عام، اسكتوا عن ما سكت الله عنه.
 هذا يعنى ان الحج عبادي بقول الشارع ولكنه ليس واجب. العبادة حتى تصبح واجبة تحتاج إلى امر ومن دونه ليست واجبة كليا. وان التدخل في الكيفيات لا يعني التدخل في المفهوم، نعم لا مانع منه.                         
 ملخص ما نقول: ان مفهوم العبادي والتوصلي هو تقسيم للأفعال وتسلط عليه الامر كبقية المفاهيم وهو مفهوم سابق على الامر بكلا قسميه: التعبدي الذاتي وغير التعبدي التوصلي. العبادية لا علاقة لها بالأمر بل يتعلق الامر بها بعد ثبوت العبادية. فلا فرق بين } اقيموا الصلاة { وبين } اوفوا بالعقود {، وبهذا نخرج من اشكال الشيخ الانصاري (ره) وتصويراته جذريا. هذا الرأي نطرحه للنقاش، لأن المشكل في الأساس انا جعلنا الامر قيدا في العبادة جزءا أو شرطا فوقعت المشكلة، وهو وهم.
 وجوابا على سؤال من بعض الطلبة من أن هذا الرأي أخرج مطلب التعبدي والتوصلي عن البحث الاصولي.
أجاب السيد الأستاذ: بأنه أسقط إشكال الشيخ الانصاري (ره) ولم يسقط نفس المطلب، بل بينا ان المشكلة كانت في قصد الامر وعدم قصد الامر، القدماء كانوا يذكرون التعبدي والتوصلي ولم يتطرقوا لهذا الاشكال، وسنرى انه في الروايات ليس هناك عين ولا أثر لمسألة التعبدي والتوصلي، وبالعود إلى وجداننا نرى انه هناك تعبدي وتوصلي ما قبل الامر، امر سابق للأمر يتعلق به الامر. وهذا الرأي ليس استهانة بما ذكر من بحوث وسنكمل بعضها لما فيه من فائدة كالأصل اللفظي والعملي والاطلاق المقامي ومعنى العبادية. نعم نكون قد انتهينا من إشكالية صعبة وهي لزوم قصد الأمر في متعلّقه في العبادات.

والحمد لله رب العالمين.




[1]  قد ذكرنا سابقا ان مفهوم العبادة موجود في كل الأديان وعند كل الأشخاص ولا دخل له بالأمر، هو هذه العلاقة الخاصة وليس مطلق العلاقة ولا المحبة ولا التقرب وغير ذلك، ولا استطيع تحديد تعريف دقيق للعبادة فكل ما ذكر توسيع للمعنى او مجاز. مثلا في شرح تجريد الاعتقاد أراد ان يفسر معنى الوجود، والوجود امر وجداني كل ما حاولت ان تفسره فسرته بالأخفى. كتفسير الوجود بانه الكون في الاعيان. في الواقع والوجدان هناك أشياء لا نحتاج إلى تعريف. وعدم القدرة على التعريف لا تعني عدم المعرفة إذا كانت المعرفة منطبعة في أذهان أبناء اللغة، ومن اشكل المشكلات توضيح الواضحات.             .
[2] الصدقة هي العطاء على جهة الشفقة. للعطاء ثلاثة مصاديق: الهدية، والهبة، والصدق. الهدية تعطى على جهة التحبب. والهبة على جهة مطلق العطاء. ولهذه التفريقات اثر في الفقه. ذكر في شرائع الاحكام للمحقق الحلي في مسالة الاستطاعة " ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا "  فلو تصدق احد بالنفقات على شخص لكي يحج فقد حقق الاستطاعة، فقد يقال انه اصبح مستطيعا ويجب عليه قبول الصدقة. المحقق الحلي يقول: انه إذا أعطاه بنحو الصدقة لا يجب عليه القبول، أما إذا أعطاه بنحو الهدية يجب عليه القبول، لان الهدية فيها تكريم وليست كالصدقة بنحو الشفقة. الفرق في الداعي أدى إلى فرق بالحكم.          
[3] آل عمران، سورة 3، الآية 97.