الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

35/04/11

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: دلالة صيغة الأمر
 - صيغة الأمر في الكتاب والسنة.
وقد أجاب صاحب الكفاية (ره) بثلاثة وجوه: 
  الأول: كما انه مستعمل كثيرا في الندب فهو أيضا مستعمل كثرا في الوجوب. فينتفي الرجحان والشهرة ولا يصبح مجازا مشهورا.
  ثانيا: إن الاستعمال في المجاز مهما كثر لا يوجب الحمل عليه، بحيث يوصله إلى رتبة المجاز المشهور، أو الاشتراك اللفظي أو المنقول، وذلك لوجود القرينة مع كل مجاز. ووجود القرينة المصحوبة لا يعني أنه أصبح مجازا مشهورا أو راجحا أو منقولا بحيث يحمل عليه اللفظ لو دارت دلالته بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي. لأن الظهور باق للمعنى الحقيقي.[1]
  وقد وافق صاحب الكفاية (ره) أكثر من تأخر عنه ونذكر منهم السيد الخوئي (ره) في المحاضرات حيث يقول: { وأما ما ذكره – أي صاحب الكفاية (ره) – من أن استعمال الصيغة في الندب أكثر من استعمالها في الوجوب فهو غير بعيد. وأما ما أفاده (ره) من أن كثرة الاستعمال في المعنى المجازي إذا كانت مع القرينة لا تمنع عن الحمل على الحقيقة إذا تجرد الكلام عنها وإن كان متينا جدا بحسب الكبرى [2]، إلا أن استشهاده (قده) على تلك الكبرى بالعام والخاص في غير محله} انتهى. [3]
  في الكبرى التي ذكروها تأمل من جهة أن المجاز لا يصبح مشهورا إلا بعد استعماله مرارا وتكرارا مع القرينة، وإلا كان الاستعمال ناقصا، لان الاستعمال بدون قرينة يجعل المخاطب يحمل الكلام على المعنى الحقيقي. قبل الشهرة كما ذكرنا المجاز العادي يحتاج إلى القرينة الصارفة، والمجاز الراجح أيضا كذلك، قبل ان يصل إلى مرحلة المجاز المشهور، وفي هذه المراحل والاستعمالات السابقة على المجاز المشهور، لا بد من استعمال القرائن. فإذا حصل الأنس والالتصاق الذهني بين اللفظ والمعنى المجازي أصبح مجازا مشهورا، وحُمِل اللفظ على المعنى المجازي بسبب اللصوق الذهني له أكثر من المعنى الحقيقي، هذه هي الخلفية التي جعلت السيد محمد باقر الصدر (ره) يعبر بالقرن الأكيد في تعريف الوضع.
 وللتوضيح: في الانصراف يقال أن كثرة الوجود تؤدي إلى انصراف اللفظ عند التلفظ به من المفهوم الموضوع له الكلي إلى بعض افراده لوجود الانس الذهني بين هذا اللفظ وهذه الافراد. وكذلك في كثرة الاستعمال. مثلا إذا قيل: وقال ابن عباس. ينصرف الكلام إلى خصوص عبد الله مع أن العباس بن عبد المطلب لديه عدّة أولاد أحدهم عبد الله، لأن كثرة الاستعمال فيه أدت إلى انس ذهني جعل ظهورا وحملا.
 فالمجاز المشهور يكون بكثرة الاستعمال وما ذكره صاحب الكفاية والسيد الخوئي (قدهما) ليس سليما وليس متينا كما قالوا، واستغفر الله من الخلل في رايي عن كان فيه خلل.
  ثالثا: الاستشهاد بالعام والخاص، فإن العام على كثرة تخصيصه حتى قيل: ما من عام إلا وقد خص. ومع ذلك يبقى ظاهرا في العموم حتى يثبت تخصيصه. فطبق (ره) هذه المسألة على العام والخاص.   
 لكن بعض الأصوليين لا يرتضي هذا القياس والتطبيق ويعتبر أن هناك فرقا فارقا بين التجوز والتخصيص.[4]
 كالمشكيني تلميذ الشيخ الأخوند (ره) وكالسيد الخوئي في المحاضرات حيث يشكل على صاحب الكفاية (ره) فيقول: { وأما ما أفاده (قده): من أن كثرة الاستعمال في المعنى المجازي إذا كانت مع القرينة لا تمنع عن الحمل على الحقيقة إذا تجرد الكلام عنها وإن كان متينا جدا بحسب الكبرى إلا أن استشهاده (قده) على تلك الكبرى بالعام والخاص في غير محله، وذلك لأن كثرة الاستعمال في المقام إذا افترضنا أنها مانعة عن الحمل على الحقيقة، إلا أنها لا تمنع في العام والخاص، وذلك لأن لصيغ العموم أوضاعا متعددة حسب تعدد تلك الصيغ [5]، وعليه فلابد من ملاحظة كثرة الاستعمال في كل صيغة على حدة وبنفسها. ومن الطبيعي أن كثرة الاستعمال في الخاص في إحدى هذه الصيغ لا تمنع عن حمل الصيغة الأخرى على العموم، مثلا: كثرة استعمال لفظة " الكل " في الخاص لا تمنع عن ظهور الجمع المحلى باللام في العموم ...، وهكذا.
 وبكلمة أخرى: أن كثرة استعمال العام في الخاص تمتاز عن كثرة استعمال صيغة الأمر في الندب بنقطة، وهي: أن القضية الأولى تنحل بانحلال صيغ العموم وأدواته، فيكون لكل صيغة منها وضع مستقل غير مربوط بوضع صيغة أخرى منها، ولذلك لابد من ملاحظة الكثرة في كل واحدة منها بنفسها مع قطع النظر عن الأخرى، وهي تمنع عن الحمل على الحقيقة فيها دون غيرها. وهذا بخلاف صيغة الأمر، حيث إن لها وضعا واحدا، فبطبيعة الحال كثرة استعمالها في الندب تمنع عن حملها على الوجوب بناء على الفرضية المتقدمة [6]. هذا، مضافا إلى أن ذلك ينافي ما التزمه (قده) في مبحث العموم والخصوص: من أن التخصيص لا يوجب التجوز في العام واستعماله في الخاص [7]، بل هو دائما استعمل في معناه العام، سواء أورد عليه التخصيص أم لا، على تفصيل يأتي في محله إن شاء الله تعالى }. [8]
  ملخص الجواب على صاحب الكفاية: الفرق بين العام والخاص والحقيقة المجاز. ان العام والخاص ليس فيه مجازية. ثانيا: مع ملاحظة الفاظ العموم نرى انها متعددة بخلاف صيغة افعل فانها واحدة، والتخصيص في واحدة من الفاظ العموم لا يؤدي إلى التخصيص في الجميع حتى يقال: ما من عام إلا وقد خص.     
  وغريب كلام المشكيني (قده) والخوئي (قده) وكل من ذهب إلى هذا التخريج، فإن المسألة في العام والخاص ليست مسألة ألفاظ حتى نقول أن اللفظ خصص أو ظهر في العموم، بل هذه مرتبطة بالمعنى، أي أن المعنى العام يخصّص، فوزانها وزان: " لكل قاعدة شواذ "، ولذلك نجد التخصيص في كل لغات العالم، حتى اللغات التي لم يوضع فيها للعام إلا لفظ واحد [9]. وكما لو فرضنا اننا فهمنا العام من دليل لبي الا يشمله ذلك؟ كما في سيرة الناس بإكرام العلماء دون ان يكون هناك لفظ. فالمسألة ليست مسألة ألفاظ كي نقول إن ألفاظ العموم متعددة ولفظ صيغة واحد، بل مسألة مضمون بغضّ النظر عن الألفاظ. 





[1] إما ظهور وإما بأصالة الحقيقة تعبدا على القول بها. .
[2] أي أن هذه الكبرى صحيحة، بانه إذا استعمل مجازا مع القرينة لا يصبح مجازا مشهورا. سيأتي التعليق عليها.  .
[3] محاضرات في أصول الفقه تقريرا بحث السيد الخوئي للفياض، ج2، ص125.
[4] نعم هناك فرق بين العموم والحقيقة والتجوز والتخصيص: العام والخاص والتخصيص ليس من باب استعمال اللفظ في غير ما وضع له، مثلا: أكرم العلماء ولا تكرم زيدا. أردت من لفظ " العلماء " غير العموم، بل أردت جزءا من العام. هذا ليس استعمال للفظ العام في غير ما وضع له. ففرق بين العام والحقيقة وبين المجاز والتخصيص. المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له بقرينة، والتخصيص ليس كذلك بل هو استعمال في نفس ما وضع له والمراد الجدي الخصوص. ونتيجة الشبه الذي أدى إلى الاشتباه القدماء قالوا ان: أكرم العلماء إلا زيدا. العلماء هنا استعمل مجازا لأنه استعمل في بعض ما وضع له. ولكن حين فرقنا بين الموضوع له، والمستعمل فيه، والمراد توضّح هذا الفرق.            
[5] فإشكال السيد الخوئي (ره) هو: ان للعموم صيغ كثيرة أما صيغة الامر " افعل " فهي صيغة واحدة. إذا لاحظنا التخصيص مع كل صيغة من صيغ العموم لا تكون كثيرة إلا بعد جمع المخصصات في كل صيغ العموم.   
[6] بان يكون المجاز والتخصيص أكثر. .
[7] هذا ما ذكرناه أولا من أن التخصيص ليس مجازا بالمثال السابق في الفرق بين المجاز والحقيقة وبين العام والخاص. ففي المجاز استعملت اللفظ في غير ما وضع له، أما في التخصيص فالموضوع له عام والمستعمل فيه نفس العام والمراد الجدّي هو الخاص. .
[8] محاضرات في أصول الفقه تقريرا بحث السيد الخوئي للفياض، ج2، ص125.
[9] كما في اللغة الافريقية " اللينغالا " التي تتألف من اربعمائة كلمة فقط، لغة فقيرة جدا، حيث من المحتمل جدا عدم وجود ألفاظ للعموم.